232

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Genres

وفي سنة 1848 رغب ولهلم في الاعتزال؛ إنقاذا لأخيه، وفي سنة 1862 رغب ولهلم في الاعتزال؛ إنقاذا لشرفه في النضال حول الجيش، والآن في سنة 1871 أراد الاعتزال للمرة الثالثة متنزلا عن العرش «تاركا كل شيء لفريتز»؛ وذلك لأن جميع عواطفه مع بروسية، وذلك لأنه يرى ببصيرته ما يخشى من أبهة اللقب الجديد.

وكتب ولي العهد يقول: «بلغت من انحراف المزاج ما رأيت معه أن أتناول دواء، فقد علمت أن الملك أراد عدم المجيء إلى مائدة الشاي في هذا المساء.» وماذا يحدث غدا ؟ لا أحد يعرف ذلك، غير أن إدارة ناظر البلاط أقوى من الملوك، وما تلقاه ولهلم من تدريب كضابط بروسي قديم فيجعله يخضع وأنفه راغم، ففي صباح اليوم التالي يشرف ولي العهد على الأمر، ويدخل ردهة المرايا أصحاب المقام الرفيع وستون من حملة الأعلام وستمائة من الضباط وبعض رجال الكتائب، ثم يصل أمراء ألمانية ويصل الملك ولهلم في أثرهم، وما كان أحد يعرف الرمز الذي يريد أن يكون به إمبراطورا، وعليه أن يبتده أهم أمر هنالك؛ أي عليه أن يعين انتظام الأمراء من فوره هنالك، ويفعل ذلك رسميا، ويفعل ذلك متواضعا فروسيا، وبعد يوم يصف الوضع بأسلوبه المستقيم الآتي:

لم أك لأزعج نفسي بالتدابير الحربية، ولم أك لأعرف أين الرايات، وأراد هؤلاء السادة إجلاسي على عرش فنهيت عن ذلك، وأردت أن أظل في الاحتفال واقفا بين الأمراء أمام الهيكل، ولكنني أبصرت رفع أعلامي وراياتي فذهبت إليها بحكم الطبع لما يجب من وجودي بجانبها، وكانت هذه الأعلام والرايات من الكثرة ما عسر معه على الأمراء أن يجدوا مكانا لهم فاضطروا إلى الوقوف تحتي، وهنالك جعلتهم أول الصاعدين. ومما سرني أن جعلت خلفي رايات فرقة الحرس الأولى، وهي الفرقة التي التحقت بها عند انتسابي إلى الجيش، وراية فرقتي الخاصة المؤلفة من رماة القنابل، ورايات كتيبة الردفاء التي كنت قائدها الأول لطويل زمن، وهكذا حالت الرايات دون الوقوف أمام الهيكل فأقبل هنالك عهدي الجديد الثقيل، وكل ما يؤسفني هو أن كانت رايات كتائب الحرس بأسرها غير موجودة في ذلك المكان!

وبعد أن دحر الهيكل العرش، وبعد أن دحرت الرايات الهيكل، وبعد أن دعا الإمبراطور الجديد أبناء عمه من ذوي التيجان ليقفوا على مستواه، وبعد أن فصل الإمبراطور الجديد عن أصحاب التيجان هؤلاء بالأعلام لم ير القسيس أن يتلو دعاء مختصرا كما كان قد أمر، بل أتى بوعظ حول لويس الرابع عشر وبخطبة حول اليوم الثامن عشر من يناير فأغضب بسمارك بما ينم عليه هذا اليوم من «الوثنية البروسية الأثرية» ثم تقدم المستشار بسمارك وتلا البيان الذي بدئ ب «نحن ولهلم، ملك بروسية بنعمة الله، بعد أن دعانا أمراء ألمانية ومدنها الحرة بالإجماع إلى تحديد مقام الإمبراطورية الذي غدا شاغرا منذ أكثر من ستين سنة وأن نحمل عبأه، نبلغكم أننا نعد من الواجب علينا تجاه جميع الوطن أن نلبي دعوة أمراء ألمانية الحلفاء ودعوة مدنها الحرة فنقبل اللقب الألماني الإمبراطوري.» وهذا البيان موجه «إلى الشعب الألماني»، ولم يعد الشعب فيه حد المستمع، ولم يكن شأن الشعب فيه غير سلبي، ولم يذكر الريشتاغ فيه قط، وهكذا يذاع في أواخر القرن التاسع عشر بيان رسمي على العالم قائل: إن أمراء ألمانية اختاروا إمبراطورا كما كانوا يصنعون في القرون الوسطى. «وبسمارك عندما نطق بالكلمات الأولى، كان صدره يلهث هياجا، وكان شاحب اللون، وكانت أذناه خاليتين من الدم فتبدوان شفافتين، وبسمارك قد لفظ بالجمل الأولى»، وهذه الكلمة هي من شهادة طبيب كان حاضرا ذلك الاحتفال، ومن المحتمل أن كان المستشار بسمارك كثير الهيجان بمجاوزته تلك الزاوية الخطرة، وولي العهد مع ذلك يروي خلاف ذلك فيقول إن بسمارك «بدا رجل جد فلم يظهر عليه أثر للحماسة ولا للكآبة.» ويقول فردريك معقبا الهتاف الذي عقب البيان: «كانت تلك الساعة مثيرة إلى الغاية، وقد ركعت أمام الإمبراطور وقبلت يده فأنهضني وعانقني بوجد عظيم، ولا أقدر على وصف حالي النفسية.» وولي العهد يلاحظ مع ذلك ما كان لعمله من أثر فيقول: «حتى إن حملة الرايات أبدوا وجدا صادقا.»

ويشد العاهل المحنك حيله

11

لما ليس في ذلك المظهر الروائي ما يروقه طويل زمن، ويغادر العاهل الدكة،

12

ويدل اتجاه خطواته ونظراته على أنه يقصد الرجال الذين أتوا مثل تلك الأعمال، ويكون القواد مواجهين للأمراء، ويبدو في وسط المسافة بين الفريقين رجل واقف هنالك، يبدو المستشار بسمارك منتصبا هنالك، ولا يزال بسمارك حاملا للبيان منتظرا؛ وذلك لأن التصافح الذي لا بد من وقوعه الآن هو رمز، ولن يركع بسمارك كما صنع ولي العهد، فبسمارك يوالي عاملا لا عابدا، وبسمارك يوالي متوترا لا مترهلا، ولبسمارك كل الحق في انتظاره أن يقابل بالشكر الصامت أمام مئات من الناظرين، ولكن بسمارك مع كل ما وقع لا يزال غير عارف بمولاه الشائب، وما كان ولهلم راغبا في نصبه إمبراطورا قط، وود ولهلم أن يكون لقبه إمبراطور ألمانية لا إمبراطورا ألمانيا، إذا ما حمل على حمل لقب إمبراطور، فيكون بسمارك قد نغص على ولهلم صفوه في ذلك الاحتفال إذن! وليتجاهل ولهلم هذا المسيء فيمر أمامه من غير أن يلتفت إليه إذن! وليقتصر ولهلم على مصافحة القواد وحدهم إذن!

وكانت تلك الساعة أظهر ما بدا فيه ضعف ولهلم الأول؛ لا لأنه تجاهل جهرا ذلك الرجل الذي أوجب بعقله المبدع جميع ما وقع، بل لأن عناده - وهو عناد شيخ - جاوز ما يخالج فؤاده، وولهلم الأول في ساعة ضعفه تلك أرى الأمراء وحملة الرايات والصحافيين والقواد (ومعظمهم أعداء للمستشار أو من حساده أو ممن ديدنهم

Unknown page