129

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Genres

وبسمارك - فيما بعد - يتغافل شيطانا عن بعض ما عليه، فيحلل حتى تجاه زوجه أحيانا ما به من بقايا تدين ذات تأثير غريب فيه، وبسمارك يقلل من كتبه إلى زوجه، وهو إذا ما كتب إليها كان ذلك باختصار، وهو إذا ما كتب إليها أبدى لطفا لها كما في الماضي ، ولا يسهب بسمارك ولا يتعمق في غير وصفه لأمور الطبيعة، فهنالك يكون شاعرا.

وبسمارك يفكر في العناية الإلهية بعد أن يضربه القدر، وبسمارك يكتب إلى أخته التي قتل ابنها في الصيد حديثا قوله: «إذا ما انقضت عشرون سنة أو ثلاثون سنة - على الأكثر - خلع كل منا عبء هذه الحياة، فيصبح أولادنا حيث نحن الآن، فيدهشون لما يرون إذ ذاك من انحدار حياتهم إلى الزوال، ولا يستحق لبس الثياب وخلعها عناء ما دام هذا هو المصير. ينقص عدد من نحب باستمرار، وهو لا يزيد إلا بعد أن نغدو ذوي حفدة، ومن كان في عمرنا لا يؤسس من الصلات ما يقوم مقام التي كانت لنا بمن ماتوا.» وحس الأسرة لدى بسمارك يدحر الحس الديني في هذا الموقف أيضا.

والحقيقة هي التي يصف بسمارك في أحوال الحياة العادية؛ أي عند عدم المرض والضعف. قال بسمارك بعد حضوره مأتم أمير: «جلست في الكنيسة المفروشة بالسواد مع غورشاكوف قريبا من التابوت المغطى بمخمل جنازي فتكلمنا في أمور السياسة. ويقتبس أسقف الكنيسة وعظه من المزمار الثالث بعد المائة «حول الكلأ والريح والغبار»، على حين نرسم الخطط ونضع المكايد كما لو كنا من الخالدين.» فهذه التأملات هي من الأمور الدارجة لدى هذا الرجل الذي يحلل نفسه دوما، وهي أكثر في سنوات نصرانيته العشر مما في شبابه، وهي تزيد الآن؛ لما تنطوي عليه من إنذار بالحقيقة أمام المرآة.

بسمارك في سنة 1859.

ويساوره مثل تلك الحال النفسية، فيجوب شوارع باريس عاطلا من منزل منظم، عاطلا من زوجه التي لم تكن معه، بعيدا من المجالس الراقية التي يغادر أهلوها باريس في منتصف الصيف، ويزيد اضطرابه لعدم بلوغه هدفه فيبلغ درجة يزدري معها هذا الهدف، ويجيء في كتاب يرسله إلى رون: «إن لدي نوبات نشاط، وإن لدي من روح الإقدام ما لدى هذا الحيوان الذي يود الرقص على الثلج في إبان سعادته.» ثم يعد العلل المنزلية التي يمكن أن تحفز برنستورف إلى تأجيل سفره، فإلى تأخير الأزمة حتى أوائل السنة، ثم يختم بسمارك قوله بالكلمة: «من المحتمل أننا نقوم بأمر الحساب من غير مضيفنا، ومن المحتمل أن صاحب الجلالة لا يقرر تعييني أبدا، والآن لا أرى سببا لتعيينه إياي ما امتنع عن ذلك في الأسابيع الستة الأخيرة.» ويحل شهر أغسطس فيلحف على رون ليتحفه بحوادث قاطعة؛ وذلك لأنه يود أن يعرف أين يكون مكتبه في فصل الشتاء القادم، أفيكون في لندن أم في باريس أم في برلين، فيجيء في جواب رون: «إن الملك سيعرف هذه العوامل، فيكون لها ما ليس للعوامل السياسية من التأثير.»

وما لديه من حنين متصل إلى الوطن ومن شوق إلى إقامة ثابتة فيجعله عصبي المزاج، فيعكس هذا على أصدقائه ببرلين، «فلا تزال أشيائي ببطرسبرغ حيث تكاد تجمد. وتبصر أفراسي في ضواحي برلين، وتبصر أسرتي في بوميرانية، وتبصرني على الطريق، ولا ترى ما هو أطيب عندي من البقاء بباريس، ولكنني أريد الاطمئنان إلى أنني لا أنقل بعد بضعة أسابيع أو أشهر فأزعج بجلب متاعي الكثير»، ويداوم على كلامه فيقول: «إنني مستعد للخدمة بلا وزارة، ولكنني لا أرى ما يجعلني آمل ذلك.» ويعود إلى عادته فيدع خطا لرجوعه فيكتب إلى أخيه أنه إذا ما نال منصبا وزاريا، فليس ذلك لطويل زمن، فهو يرغب في الذهاب إلى الريف لكي يغرس أشجارا، «ومن رأيي الثابت أن يكون عندي شجر بلوط في الأراضي الرملية لصنع المراكب؛ فالهولندي حتى في أسوأ تربة ينال ما بين عشرين فلورينا وثلاثين فلورينا»، وفي حين آخر يكتب إلى أخيه كما لو كان ملازما بعد مأدبة «أن ابتعادي عن زوجي وأولادي وما كان من بشمي بالمشمش قبل يوم؛ فمما يجعلني أكتئب، فأطمع أن يكون لي من المنصب الثابت ما أختم به بقية أيامي مطمئنا.»

وأجمل شيء وجده في ذينك الشهرين بباريس هو ما اتفق له من حديث في فونتنبلو؛ فقد حاول الإمبراطور أن يغوي بسمارك كما حدث منذ خمس سنين وإن كان على وجه ملح أكثر من قبل، فكأن نابليون شعر بأن من المحتمل أن يقبض بسمارك على زمام السلطة قريبا فيسعى في خرابه، فيرجو أن يحول دون وقوع الكارثة مقدما، وفيما كانا يتنزهان قال الإمبراطور لبسمارك على غير انتظار: «أترى الملك مستعدا لمحالفتي؟»

بسمارك :

لا شيء يعدل ما يكنه الملك من الصداقة لشخصكم يا صاحب الجلالة، وما كان من تحامل الرأي العام على فرنسة فقد ذهب أدراج الرياح، غير أن المحالفات في الوقت الحاضر لا تكون مجدية إلا إذا كانت مفيدة ضرورية؛ فالحلف لا بد له من بواعث ولا بد من وجود هدف له.

الإمبراطور :

Unknown page