ويبلغ شوق بسمارك إلى العمل في ربيع سنة 1862 ما يرضى معه أن يصير وزيرا بلا وزارة على الأقل، ويتلقى بسمارك من الملك، في هذه المرة أيضا، قرارا مزريا به قائلا إنه يمكنه أن ينال أي منصب كان خلا وزارة الخارجية مع عد بسمارك أمر القيام بهذه الوزارة من اختصاصه، وما كان بسمارك ليطيق الانتظار كما صنع منذ عامين؛ فقد هدد رئيسه بالاعتزال أو رفعه إلى منصب، ويعين سفيرا بباريس في ثلاث ساعات، وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة تهديدات بسمارك بالاستقالة حملا للملك على النزول إلى ما يريد، وكان منصب السفير بباريس شاغرا، وكان منصب السفير بلندن شاغرا أيضا، فأبدى برنستورف ميلا إلى ملئه له، ولكن رجل الدولة (بسمارك) كان غير محبب، فبلغت الملكة من كرهها له، وبلغ الملك من عدم الاكتراث له، ما عرض بإنذاره ذلك نفسه لخطر الاستغناء عنه في ساعة ملال، وما كان من إشارة برنستورف بعكس هذه المجافة ففضل منه، والرجل الوحيد الذي كان بسمارك يعتمد على عونه الشخصي هو رون، ورون هذا كان لا غنية للملك عنه.
وفي سان بطرسبرغ كان بسمارك يشعر دوما بأن إقامته مؤقتة بها، فلم يقض فيها سوى نصف السنوات الثلاث من سفارته بها، وإلى باريس يذهب بسمارك كما لو كان ذاهبا لزيارة، فمن الممكن أن تشتد الأزمة في كل وقت فلا يوجد لها حل، فيستدعيه رون وفق ما اتفق عليه هذان الصديقان فيما بينهما، وبسمارك على ما كان من سابق حبه لباريس لم ترقه باريس في الوقت الحاضر؛ فهو يجد السفارة فيها عفنة، وهو يجد الفرنسيين بلديين متصنعين متحفظين، وهذا إلى ما كان من توقانه إلى السلطان منذ عامين على الأقل، فصار كل شيء يكدر صفوه، وأصبح غائصا في روح من السلبية ما يذكر معه ساعات فتائه القاتمة.
ويرسل إلى أخته كتابا عند نقله من سان بطرسبرغ يقول فيه: «غدوت متهدما نفسيا منذ مرضي، فصرت راغبا عن معالجة الأحوال المضطربة، وكان يمكنني أن أكون وزيرا نافعا للدولة قبل ثلاث سنين، والآن لا أبدو لنفسي سوى فارس عليل في الميدان، فسأذهب إلى باريس أو لندن غير راض أو غاضب، أو أبقى هنا كما يرى الرب وصاحب الجلالة، فجميع هذه الأمور سواسية لدي، وهي لا تغير شيئا من حياتنا السياسية. أرتعش من المنصب الوزاري كما لو كنت أمام مغتسل بارد، وأود شغل أي منصب خال كان، أو العود إلى فرانكفورت، وأريد حتى الذهاب إلى برن لما أجده من الراحة فيها. والآن أقرأ مذكرات فارنهاجن
3
فأجدها لاغية خبيثة، ولكن من ذا الذي يظهر بغير هذا؟ تتوقف الفروق بين الناس على الطراز الذي تنشأ به حياة كل واحد منهم، شأن الثمرة التي تسوس بالحشرات أو تنضر تحت شعاع الشمس، أو تعرض للرطوبة فتصير مرة أو حلوة أو فاسدة.»
وما كان بسمارك متألما مع ذلك، أجل إن المرض يلم دوما بزوجه وولده وبجميع أفراد منزله، فتبصر رقة زائدة فيما يكتب إلى من في بوميرانية، ولا سيما أخته، بيد أنه إذا مرض في الحقيقة اعترف بنسبية مشاعره السياسية، فيسير على غرار هملت
4
في كتاب يرسله إلى زوجه فيقول لها فيه: «لا أرى في هذا العالم سوى المصانعة والاحتيال، ولا يهم في نهاية الأمر أن تمزق الحمى أو البندقة
5
نقاب اللحم ما دام وقوع هذا أمرا لا بد منه عاجلا أو آجلا، وهذا إذا ما حدث كان بين البروسي والنمسوي من الشبه ما يصعب معه تمييز أحدهما من الآخر لتماثلهما حجما كتماثل شرك ورشبرك، وهما إذا ما جملا، فلم ينظر إلى غير الهيكل في العاقل والمجنون منهما، وجدا متقاربين؛ فالوطنية الخاصة تتوارى عند النظر إليها من هذه الجهة.»
Unknown page