قال وقد مد إليها يدا يعابثها: فإن طفلك الكبير ... جائع يا أم.
فابتعدت عنه معجلة وهي تقول: صه، فإن عتيبة قادم.
وسمع وقع أقدامه في الفناء، ثم دخل، فألقى بنفسه بين ذراعي أبيه ...
لم يعد عتيبة صبيا، فقد شب ونما واخضر شاربه، وكان قويا عريض الألواح مفتول الساعد خشن الكف، ولكن في خديه شحوبا، وفي عينيه زرقة وعمق، ولصوته نبر عذب، من يراه ويرى هذين الرجل والمرأة لا يشك للنظرة الأولى أنهما زوجان قد أنجبا، فإن فيه من كليهما وليس لأحدهما من صاحبه شيء ...
ورأى عتيبة فرصة سانحة ليتحدث إلى أبيه في أمر يشغله منذ بعيد، ثم استحيا ... فآثر السكوت حتى يروي في الأمر فيعرف من أين يبدأ ...
ولكن الرجل الكهل لم يكن من الغفلة بحيث يغيب عنه معنى تلك اللمحات الغامضة والإشارات المكبوتة التي بدت من ولده حين أخذا في الحديث عن بعض ما كان هنا وهنالك في أثناء تلك الغيبة الطويلة ... - إن عتيبة قد بلغ مبلغ الرجال يا سبيكة. - نعم! - ويرى من حقه أن يؤوي إليه زوجة. - نعم! - وتغلبك على أمومته أم أخرى ... - تخف تبعاتي إذن. - أتؤمنين بما تقولين يا سبيكة؟ - كل الإيمان. - وإذا لم يجد عندها ما يلتمس كل رجل في امرأته من حنان الأمومة وعطف الزوجة وإيثار الحب؟ ... - لن يفتقد عتيبة عند زوجه شيئا من ذلك. - تعرفينها إذن؟ - نعم! - حدثك بخبرها؟ - حدثتني عيناه دون لسانه. - أهي نوار بنت عمه؟ - من حدثك؟ - حدثتني عيناه كذلك. - وبماذا أجبته؟ - غضضت طرفي، واصطنعت الغفلة. - ولمه؟ - أردت أن أستنبيء عينيها قبل أن آخذ في الحديث معه. - ولكن عينيها لا تتحدثان إلى أحد بشيء! - فكيف عرفت إذن أنها تحبه؟ - إن عيون النساء أقدر على الغوص في أعماق النفوس والكشف عن خبيئاتها! - وغاصت عيناك في أعماقها وكشفتا عن خبيئتها؟ - ورأيت صورته في أعمق الأغوار من قلبها، ولكن إطارا أسود يمسكها ويلقي عليها ظلا كريها. - لست أفهم ما تعنين يا سبيكة! - إن أمها لا تريد أن يكون زوجها فتى هجينا، يتدسس إليه عرق من الروم، الذين أيتموها جنينا وأيموا أمها شابة.
15 - ومن أنبأها أن عتيبة يمت إلى الروم؟ - لم ينبئها أحد! - فكيف عرفت إذن؟ - ذاك يوم جاء يسألني عن نسبي. - قد وهمت يا سبيكة. - وشيء آخر ... - ماذا؟ - كلمة لا أقولها ... - بل قوليها ... - لقد حدثتني أمها ذات يوم أنها لن تزوج فتاتها إلا فتى يمهرها تاج بطريق رومي! - ما أرخصه مهرا! - يقتله ويحمل إليها تاجه. - فهمت. - ويسوق إليها مع هذا المهر جارية من بنات البطارقة. - وفيم هذا الغلو؟ - تريد أن تثأر لأبيها. - ولكن أباها لم يمت! - ماذا قلت؟
لم يكن النعمان يريد أن يفضي إلى أحد بذلك السر، فإنه لم يطب له عيش منذ حمله، وليس يريد أن يشق على أحبائه بتحميلهم من ذلك ما لا يحتمل هو، ثم إن أمر أخيه لم يزل حدسا لا يعرف آخرته؛ أإلى لقاء سعيد؟ أم إلى خيبة أشد مرارة من ذلك الحاضر المر؟ فلم تكد تجري على لسانه تلك العبارة، وتتبعها امرأته بالسؤال حتى فاء إلى نفسه واستدرك: أعني أن أباها لا يعرف أين ذهب، فمن أين لها أن الروم قتلته؟ - كيف تزعم! - ولكن هذا الزعم لن يحول بين قلبين تعارفا، فائتلفا فأضمر كل منهما لصاحبه مثل ما يضمر لنفسه. - وذلك المهر؟ - دعي ذلك إلى إبانه.
16 •••
لم يودع النعمان زوجته وولده في هذه المرة قلقا حيران، قد توزعته التبعات؛ فقد خلف على أهله في هذه المرة رجلين يقومان بأمرهم، هما عتيبة ابنه، وبشير ابن أخيه، وقد كشف لزوجه عن ذات صدره في أمور لم يكشف لها عن مثلها من قبل، وتحدث إلى أمه وامرأة أخيه وولديها أحاديث ذات بال في شئون شتى، لم يصرح بكل ما في نفسه، ولكنه مهد تمهيدا لبعض الأمر، ووضع في الأرض الطيبة بذرة يرجو لها النماء ... ثم وثب إلى ظهر فرسه ومضى ...
Unknown page