التي أشرت إليها مستشهدا بها على صوابك في التشدد؛ إذ تأبى أن تتقبل علة الشيخوخة عذرا من تأخير المراسلة. فما هي تلك الكلمة يا ترى؟ إنك على ما أرى لا تشعر بالداعي إلى ذلك الاعتذار، وإن كنت كما قلت لي تصعد إلى الخامسة والسبعين، لكنني أنا أصعد إلى الثمانين، أو لعلي أنحدر إليها، وأدع الاعتذار إلى أن تبلغها أنت عسى أن تكون أدنى إلى قبوله والإيمان بصحته، وتراه أنت صالحا للانتفاع به يومذاك.
وأوافقك على أن النقرس سيئ، وأن الحصاة أسوأ، وأحسبني سعيدا؛ لأنني لم أجمع بينهما معا في وقت واحد، وأدعو معك أن تعيش وتودع الحياة بمنجاة من هذه وذاك. إلا أنني أزعم أن صاحب القبرية التي أرسلتها إلي على خطأ فيما أوصى بكتابته على قبره وهو: «لم يحفل مقدار ذرة أن يقول القائلون خيرا أو شرا في ساكن هذه الحفرة»، فإنه لمن طبيعة الإنسان حيا أو ميتا أن يحب ذكراه بالخير، ولا أخاله معفى من هذه الرغبة وإلا لما شغل نفسه بما يكتب على قبره، ولقد كان - كما يظهر من قبريته - يحب أن يقال: إنه رجل ساخر من أصحاب النكتة، أو ليس جديرا منه بمثل هذا الشغلان أن يقال: ما كان أصدقه أو أطيبه من إنسان! وتعجبني أكثر من هذا خاتمة الأنشودة التي عنوانها أمنية الشيخ التي يذكر فيها الناظم أنه يتمنى في الشيخوخة البيت الدافئ في بلدة من بلاد الريف، والجواد الطيع، والكتب الممتعة، والرفاق الموافقين من ذوي البشاشة والذكاء، وفطيرة في يوم الأحد، وقنينة من الجعة، وأخرى من خمر برجندي إلى أن يقول ويعيد هذه المقولة في ختام كل قطعة:
وليتني أملك شعوري كالملك المطلق، وأزداد في الحكمة والخير كلما نقصت قواي، ولا نقرس ولا حصاة، إلى أن تحين الوفاة.
ولقد أضاف إلى تلك الأماني أمنيته الأخرى قائلا:
وبالشجاعة التي لا تهن ولا تضعف ليتني أواجه اليوم الأخير، وليت خيار الناس يقولون بعد اليقظة في الصباح أو بعد الشراب في المساء: لقد ذهب بغير نظير؛ لأنه حكم شعوره حكم السادة المطلقين.
8
على أنها محض أمنية. وماذا تغني الأماني؟ إن الأمور لتجري كما يتفق لها. وقد أنشدت ذلك النشيد ألف مرة في شبابي، ثم بلغت الثمانين فإذا بالمحظورات الثلاثة قد اصطلحت علي، فتعرضت للنقرس، وللحصاة، ولم أملك شعوري كالملوك المطلقين! وكأنني تلك الفتاة المترفة التي نذرت ألا يكون زوجها من طائفة القسس، ولا من الكنيسة المشيخية، ولا من أبناء أيرلندا. فلما تزوجت إذا بالثلاثة يجتمعون في واحد: قسيس أيرلندي من الكنيسة المشيخية.
وإنك لترى إذن أنني أتمنى - لسبب معقول - ألا أكون في الحياة الأخرى، كما كنت في هذه الحياة وحسب، بل أفضل وأسعد ولو قليلا، ولي رجاء في ذلك لأنني كشاعركم أومن بالله، ويؤيد هذا الرجاء أنني أرى في آيات خلقه دلائل القصد والتدبير، وهي ظاهرة في إبداعه وسيلة التناسل والتجديد التي تعمر عالمه بالنبات والحيوان بدلا من خلقها كل مرة من جديد، وظاهرة كذلك في جعل الأشياء قابلة للرجوع إلى عناصرها الأولى؛ كي تصلح لاستخدامها في تركيب بعد تركيب بدلا من خلق مادة جديدة في كل حين، وهكذا قد يتركب الخشب من التراب والهواء والنار، ثم يعود بعد انحلاله ترابا، وماء، وهواء، ونارا، وكلما نظرت فلم أر شيئا يفنى ولا قطرة ماء تضيع في الغمار لم يسعني أن أتصور فناء الأرواح، ولا أن أعقل أنه يدع الملايين من العقول تزول، وينشئ في مكانها عقولا أخرى بادئ ذي بدء كأول مرة. ولهذا أرى نفسي في الدنيا وأعتقد أنني باق فيها على صورة من الصور، وإنني على كل ما في الحياة الإنسانية من النقائص والنقائض لا أمانع في إخراج طبعة جديدة مني، على أمل في تصحيح الأغلاط التي كانت تشوب الطبعة السابقة.
أعيد إليك مذكرتك عن الأطفال الذين تلقاهم ملجأ اللقطاء في باريس من سنة 1741 إلى سنة 1755، وقد أضفت إليها السنوات السابقة منذ سنة 1710 مع بيان تسجيلات التنصير وإحصاء السنوات اللاحقة إلى سنة 1770، ولم أستطع العثور على غير هذا الإحصاء، وفي الهامش ملاحظات على التدرج في الزيادة من اعتبار الطفل عاشرا إلى اعتباره ثالثا بين المواليد. وقد مضت خمس عشرة سنة منذ ذلك التاريخ، فلا يبعد أن النسبة قد وصلت اليوم إلى النصف! فهل من الصواب تشجيع هذا النقص في حاسة العطف الطبيعية؟ إنني لقيت طبيبا هنا يتهم نساء باريس بقلة الصبر أو قلة القدرة على الإرضاع، ويؤكد لي ذلك قائلا: إنك تستطيع أن تعرف ذلك من النظر إلى صدورهن السوية! فليس فيها نمو أكبر من النمو الذي تراه على ظهر كفي! ومنذ ذلك الحين يلوح لي أن كلامه لا يخلو من الصدق، وأن الطبيعة أحست أنهن لم ينتفعن بالأثداء فكفت يدها عن ملئها، هذا وإن تكن الحالة قد تغيرت بعض الشيء منذ تكلم روسو بفصاحته المعجبة عن حق الأطفال في ألبان أمهاتهم، فأصبح بعض النساء من العلية يرضعن أبناءهن ويجدن في أثدائهن اللبن اللازم للرضاع، وأسأل الله أن تهبط «البدعة» إلى الطبقات الدنيا، فتبطل تلك العادة التي مردن عليها؛ عادة إلقاء الأطفال إلى الملاجئ زاعمات في غير اكتراث أن الملك أقدر على تربيتهم وتموينهم منهن.
وقد اتصل بي من ذوي ثقة أن تسعة أعشارهم يموتون على الأثر مما يفرج عن الملاجئ التي لا تكفي مواردها لولا ذلك للإنفاق على البقية. أما فيما عدا النسوة القلائل من العلية اللائي أشرت إليهن، وفيما عدا غيرهن ممن يضعن أبناءهن في المستشفيات، فالعرف الشائع أن يدعى بالمرضعات من الريف ليعهد إليهن في تربية الأطفال هناك، وفي المدينة مصلحة تعنى بالكشف على المرضعات وإعطائهن الشهادة التي تثبت صلاحهن لهذا العمل، وكثيرا ما نراهن عائدات إلى قراهن يحملن طفلا على كل ذراع، ولكن الفئة التي تبلغ بها الطيبة أن تربي أطفالها على هذا النحو قد تعوزها النفقة التي تكفي للتربية، وتمتلئ السجون بالآباء والأمهات المقصرات في هذا الواجب، وإن يكن من العادات المستحبة هنا أن يؤدي المحسنون غرامة أولئك الآباء والأمهات لتسريحهم من السجون، وحبذا لو أفلح المشروع الجديد الذي يدبر الوسائل لتمكين الفقراء من تربية أطفالهم في البيوت، إذ لا مرضع كالأم، أو لا كثير من المرضعات يغنين غناءها، إن وجدن. ومتى بقي الطفل في حجر أمه أياما، ولم يعجلوا بإرساله إلى الملجأ، تمكن حبه من قلوب أبويه وبذلا من الجهد فوق ما يبذلانه لكسب الرزق والإنفاق عليه. وإنها لمسألة تعرفها أنت خيرا من معرفتي، فحسبي ما ذكرت عنها الآن ولا أزيد عليه إلا ملاحظة مقتبسة من تاريخ مجمع العلوم تثني على ملاجئ اللقطاء.
Unknown page