* مقدمة*
ألف الجاحظ كتاب «البغال» ليضمه إلى كتاب الحيوان، بحيث يكون قسما منه متمما لسائر أقسامه. وقد أفصح عن نيته تلك بقوله:
«كان وجه التدبير في جملة القول في البغال أن يكون مضموما إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفا تاما، كسائر مصاحف كتاب الحيوان» .
يبدو أن عقبات عدة حالت دون تحقيق نيته ذكرها في مطلع كتاب «البغال» منها الهم الشاغل، ومنها المرض الذي عانى منه في شيخوخته.
ويبدو أنه نشر كتاب الحيوان قبل تأليف «البغال» فحاول أن يستدرك النقص الذي يعتوره، وأعتذر بالمرض والشواغل الكثيرة.
وإذا كان الجاحظ التمس لنفسه عذرا فتعلل بالمرض والهم الشاغل، فما هي علة ناشري كتب الجاحظ الكثّر في عدم ضم «البغال» إلى سائر «الحيوان» بحيث يكمل واحدهما الآخر؟ إني أرغب إلى الناشرين في ضم «البغال» إلى «كتاب الحيوان» أو إلحاقه به تلبية لرغبة المؤلف ذاته وخدمة للعلم.
لقد نشر كتاب «البغال» للمرة الأولى سنة ١٩٥٥ م على يد
1 / 5
المستشرق الفرنسي شارل پلّا وذلك في مطبعة الحلبي بالقاهرة. وبعد عشر سنوات نشره عبد السلام هارون ضمن «رسائل الجاحظ» وتولت طبعه مكتبة الخانجي بالقاهرة، واعتمد على نسخه مكتبة داماد، ٩٤٩. وأشار الناشران إلى أن للكتاب أصلا آخر موجودا في مخطوطات الموصل رقم ٢٦٥.
وقد نشرنا «رسائل الجاحظ» التي انتهت إلينا في ثلاث مجموعات مستقلة: «مجموعة الرسائل الكلامية»، «ومجموعة الرسائل السياسية»، و«مجموعة الرسائل الأدبية» . ولم ندرج فيها كتاب «البغال» كما فعل عبد السلام هارون، لأنه ليس رسالة سياسية أو كلامية أو أدبية. وآثرنا جعله ملحقا بكتاب «الحيوان» لأنه يشكل في الواقع جزءا لا يتجزأ منه. وبذلك نكون قد أكملنا عمل كل من پلّا وعبد السلام هارون ووضعنا الأمر في نصابه.
ثم أننا قمنا بعمل آخر هو إعادة النظر بتبويب الكتاب. أن العناوين التي وضعت لأبوابه في طبعة عبد السلام هارون غير دقيقة ولا تنطبق جيدا على الأفكار التي تندرج تحتها، فرأينا من الخير إجراء تعديل فيها.
*** إن كتاب «البغال» كسائر أجزاء «الحيوان» يعكس لنا ثقافة الجاحظ الموسوعية ومناحيه الفكرية المتنوعة. فهو يجمع بين العلم والأدب وبين الجد واللهو، وبين الفلسفة والدين، وبين اللغة والكلام، وقد أشار إلى هذه الخاصة بقوله في مقدمة كتاب الحيوان «وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيا إعرابيا، وإسلاميا جماعيا، فقد أخذ من طرف الفلسفة وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين
1 / 6
وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن» .
تتمثل الناحية العلمية في الكتاب بالوصف المسهب لطباع البغل ومنافعه. إن البغل نتاج مركب من العير والفرس وقد ورث عن أبويه خصائصهما المميزة على التساوي، فأخذ عن الخيل السرعة وشكل العنق والصدر، وأخذ عن العير القدرة على العمل والصبر وصلابة الحافر. ولكن البغل لا يعيش له نسل، وهو أطول عمرا من جميع الحيوانات الأليفة. وإذا حرن البغل أو غضب صرع راكبه. وقد جمع أحدهم مساوىء «البغل» في قوله: «لا لحم ولا لبن؛ ولا أدب ولا لقن، ولا فوت ولا طلب، إن كان فحلا قتل صاحبه، وإن كانت انثى لم تنسل ... والبغلة والبغل يعتيريهما من الشبق ما لا يعتري أناث السنانير، ثم هي مع ذلك لا تتلاقح، فإن لقحت في الندرة أخدجت» أي جاء ولدها ناقصا.
ومع ذلك كلف الأشراف بها فاقتنوها لكثرة منافعها وتنوع الإرتفاق بها وقالوا فيها أنها «نزلت عن خيلاء الخيل وارتفعت عن ذلة العير، وخير الأمور أوساطها» . وهي خير الحيوانات والأثقال؛ وسيرها أعدل واقصد من سواها. وكانت تستعمل للبريد. وكان الرسول يركب بغلة شهباء، وكان لعثمان بغلة بيضاء، وكان هشام بن عبد الملك أكثر الناس ركوبا لها.
وبما أن البغل نتاج مركب نلفي الجاحظ يتوقف عند هذه الظاهرة ويمعن النظر فيها محاولا استجلاء حقيقتها. فيلاحظ أن البغل ليس سوى حالة من النتاج المركب وأن ثمة حالات أخرى يذكرها منها الدجاج
1 / 7
الخلاسي المتولد من النبطي والهندي، ومنها الكلاب الخلاسية المتولدة من الكلاب المردية والسلوقية، ومنها الحمام الورداني والحمام الراعبي. وهذه الأجناس من المركبات عرفها الجاحظ وتحقق منها. ولكن ثمة أجناس أخرى مركبة لم يتحقق منها أمثال: السمع والعسبار والديسم والعدار والزرافة واللخم والكوسج والدلفين والشبوط وبلقيس إلخ. وكل ما يعلمه عنها إنما سمعه في الأشعار ومن أفواه رجال لا يعرفون بالتحصيل والتثبت، وليسوا بأصحاب توق وتوقف. ولذا نراه ينتقد بعض الأخبار الواردة بشأنها. فهو مثلا يغلّط أياس بن معاوية القاضي الذي يزعم أن الشبوطة خلقت من بين الزجر والبني مستدلا على دعواه بأن جوف الشبوطة يخلو من البيض فيقول: «فأنا رأيت في جوفها البيض مرارا ... والشبوط جنس يكون ذكرانه أكثر، فلا يكاد إنسان يقل أكله للشبوط يرى بيض الشبوط. فإذا كان أياس يغلط هذا الغلط، فما ظنك بمن دونه» .
وكذلك يشك الجاحظ بتلاقح الجن والإنس وبالزعم أن بلقيس ملكة سبأ أمها جنية وأبوها إنسي، وذلك لبعد الشبه بين الإنس والجن ولأن الملاحظة لا تؤيد هذا الزعم. أسمعه يوضح رأيه: «فاحسب أن التناكح يكون بين الجن والإنس، من أين أوجبوا التلاقح، ونحن نجد الإعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناسا كثيرة فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، ألقح منها شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا. وأصل الإنسان من طين، والجان خلق من نار السموم، فشبه ما بين الجن والإنس، أبعد من شبه ما بين الإنسان والقرد، وكان ينبغي للقردة أن تلقح من الإنسان» . ثم يردف قائلا أن
1 / 8
ما نسمعه عن بلقيس قد يكون «قص به القصاص وسمروا به عند الملوك» .
إن الجاحظ يبدو لنا عالما يتحرّى الحقيقة ولا يقبل المعلومات التي يتلقاها من أي مصدر كان إلا إذا أيدتها التجربة أو اقتنع بها العقل، أو رواها رجال يعرفون بالتحصيل والتثبت والتوقي والتوقف.
*** والناحية الفلسفية في الكتاب تبدو في المنحى الطبيعي والمنحى النقدي والمنحى العقلي الإعتزالي.
فالمنحى الطبيعي يقول أن الله طبع الأشياء على خصائص تغلب عليها وتظهر في هيئاتها وسلوكها وأعراقها وأخلاقها. وجعل للطبيعة التي تعيش عليها تأثيرا في ألوانها وأجسامها وطباعها. فهو مثلا يرفض رأي من يقول أن الحمير الأخدرية هي نتاج خيل لكسرى توحشت وضربت في الغابات. ويرى أنه لا يجيء بين الخيل والحمير إلّا البغال التي لا تتناسل لأنه لا يعيش لها نسل «فكيف لقحت هذه الأنثى من تلك الخيل حميرا طبقت تلك الصحارى بالحمر الخالصة» . والأقرب إلى العقل هو القول أن الحمير الوحشية اكتسبت خصائصها المميزة من العظم والتمام بتأثير البيئة التي تعيش فيها. لقد كان الأكاسرة إذا اصطادوا عيرا وسموه بأسمائهم وأطلقوه في الصحارى «فعسى أن تكون هذه الحمير أو بعضها صار في ذلك الصقع الذي هذا صفته، فإن للماء والتربة والهواء في هذا عملا ليس يخفى على أهل التجربة» .
ويؤيد الجاحظ مذهبه بأمثلة آخرى يضربها: مثل العربي الذي ينتقل من الجزيرة إلى خراسان، فإن البيئة الجديدة تترك فيه أثرها فيغدو أحمر اللون مفطوح القفا. ومثل حرة بني سليم التي تطبع كل ما يعيش فيها باللون الأسود فأهلها سود وطيورها سود وهوامها سود وسبعها سود
1 / 9
إلخ. ومثل القمل الذي يتلون بلون شعر الرؤوس، «فنرى قمل رأس الشاب الأسود الشعر أسود، ونراه في رأس الشيخ الأبيض الشعر أبيض، ونراه في رأس الخاضب بالحمرة أحمر، نعم حتى أنك ترى في القملة شكلة إذا كان خضاب الشيخ ناصلا، وهكذا طبع الله الأشياء» .
*** والمنحى النقدي عند الجاحظ يتمثل في نزعته إلى الشك بحيث لا يسلم بأي أمر أو خبر إلّا بعد أن يمحصه ويختبر مدى صحته، وهو القائل: أجعل الشك طريقا إلى اليقين؛ وهو الذي عرف بميله إلى التهكم والسخرية حتى أنه كان يسخر من نفسه ومن قبح منظره.
فهو يورد الخبر ثم يعقب عليه مبينا ما فيه من صحة أو خطأ متبعا في ذلك مناهج النقد الدقيقة. لنسمعه ينتقد خبر عائشة أم المؤمنين التي خرجت على بغلتها لتصلح بين حيين، فلقيها ابن عتيق وسألها عن سبب خروجها فقالت له: أصلح بين هذين الحيين، فقال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل، فكيف إذا قيل: يوم البغل! فضحكت وانصرفت. إن هذا الخبر برأي الجاحظ مصنوع، ومن توليد الروافض للأسباب التالية:
أولا: لأنه أضيف إلى أن ابن عتيق وجعل نادرة ليشيع بين الناس.
ثانيا: لأن عائشة عرفت بطاعة الناس لها باعتراف علي نفسه فهي ليست بحاجة إلى أن تركب وتخرج من بيتها لتذهب إلى حيين وتصلح بينهما ويكفي أن ترسل إليهما فييجيئان إليها وتحكم بينهما.
ثالثا: لم يعرف أن حربا نشبت بين حيين من قريش، وتدخلت عائشة لإصلاح البين ودفع الشر. وإلا «فمن هذان القبيلان؟ وفي أي ضرب كان هذا الشر، وفي أي شيء كان، وما سببه إلخ ...
1 / 10
رابعا: ليس للحديث إسناد.
ويخلص الجاحظ إلى اعطاء حكم في الأخبار والمخبرين في عصره: «أن ثمة مخبرين كذا بين يصنعون الأخبار أو يولدونها أو يحرفونها لأسباب مذهبية أو دينية أو سياسية أو عنصرية من هؤلاء أبو مخنف والشرقي بن القطامي، والكلبي، وابن الكلبي، ولقيط المحاربي، وشوكر وعطاء الملط، وابن دأب، وأبو الحسن المدائني، وحماد الذي قال عنه يونس بن حبيب: «يا عجبا للناس كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر» .
وثمة رواة عرفوا بصدقهم وأمانتهم وتوقفهم منهم قتادة وأبو عمرو بن العلاء، وابن جعدبة، ويونس بن حبيب، وأبو عبيدة، ومسلمة بن محارب، وأبو عاصم النبيل، وأبو عمر الضرير، وخلاد بن يزيد الأرقط، ومحمد بن حفص، وعبد الله بن محمد، وسحيم بن قادم.
إن الجاحظ مفكر اعتزالي حكم العقل في جميع الأمور ووقف موقفا وسطا بين مختلف الفرق الدينية، وبين الصحابة، ولا سيما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كما يتضح من رسائله العديدة كالثابتة والعثمانية والحكمين. ونحن في كتاب «البغال» نلمح هذا الموقف من سياق النص. فهو مثلا يعلن موقفه من الشيعة وعلي بن أبي طالب، فينتقد الشيعة ويؤيد عليا من خلال الخبر التالي «قالوا: وكان علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، يكثر ركوب بغلة عبد الله بن وهب الشهباء، التي غنمها يوم النهروان. هذا من قول الشيعة، وأما غيرهم فينكرون أن يكون علي كرم الله وجهه، يرى أن يغنم شيئا من أموال أهل الصلاة، كما لم يغنم في أموال أصحاب الجمل» .
1 / 11
وفي كتاب «البغال» تستوقفنا ناحية أخرى هي الناحية اللغوية. وهذه الناحية نجدها في كثير من مؤلفات الجاحظ ولا سيما في «البيان والتبيين» و«الحيوان» . وهو يحاول ثمة أن يضع أساس فلسفة اللغة.
أما هنا فيقتصر عمله على وضع مادة معجمية أو فقه لغوية. فهو يورد مشتقات اسم البغل ويقول: «ومما اشتق من اسم البغل الدرهم البغلي، وفي بني تغلب رأس البغل، وهو رئيس من رؤوسهم، وهو الذي كان إبراهيم بن هاني الخليع نسب إليه. وإذا كان الإنسان عظيم الرأس لقبوه رأس البغل. والبغلات: جوار من رقيق مصر، نتاج ما بين الصقالية وجنس آخر، والواحدة منهن يقال لها بغلة، ولهن أبدان ووثارة وحدارة. قالوا: وإذا عظمت المرأة، وعظم بطنها، قالوا ما هي إرّ بغلة، وما رأس فلان إلّا رأس بغل، وما أيره إلّا أير بغل، وما خلقه إلّا من أخلاق البغال ... ومن سير الإبل سير يسمى التبغيل ...
والبغيلة اسم ناقة كانت لجميل بن معمر» .
وفي الكتاب نقع على شيء من فقه اللغة يعتبر الجاحظ رائدا فيه لمن جاء بعده كابن فارس وابن جني والزمخشري. فهو مثلا يذكر الأسماء التي تتعلق بالجنس عند الحيوانات والإنسان فيقول: «ويقال لأير الإنسان: ذكر، وأير. وجردان الحمار والبغل وغرمولهما والجمع جرادين وغراميل. ويقال نضي الفرس ومقلم البعير ... ويقال قضيب التيس، وقضيب الثور، وعقدة الكلب. وتقول العرب:
صرفت البقرة فهي صارف، وسوست البغلة. ويقال: هي امرأة هذمى، وغلمة، وقال أكثر العلماء: ما يقال مغتلمة. وشاة حرمى، وناقة ضبعة، وضرس وحريق، وكلبة مجعل. ويقال: حر المرأة، والفرج، وطبية الفرس، وكذلك من الحافر، وحياء الشاة وكذلك من الخف كله؛ وثفر الكلبة، وكذلك من السباع كلها، وتستعير الشعراء
1 / 12
بعض هذه من بعض إذا احتاجت إلى إقامة الوزن. فإذا حملت الشاة فهي حامل، والبقرة كذلك. والفرس عقوق، وكذلك الرمكة. والأتان جامع، وبغلة جامع، وكلبة مجح، وكذلك السباع» .
*** وفي الكتاب ناحية رابعة هي الناحية الأدبية. وتتمثل هذه الناحية بالخبر ورواية الشعر والفكاهة والطبع والأسلوب المميز ويسوق الجاحظ في «كتاب البغال» مجموعة ضخمة من أخبار البغل تبين منافعه وخصائصة المميزة عن سائر الحيوانات. والخبر ضرب من القصة القصيرة، ينطوي على ما تنطوي عليه القصة من تسلسل أحداث، ومكان وزمان معنيين، وأبطال يضطربون في تلك الأحداث، وفكرة يبغي المخبر الإفصاح عنها. إن البطل الرئيسي في معظم الأخبار هو البغل، والفكرة التي يريد الجاحظ إيضاحها طباع البغل وظاهرة الخلق المركب، والبيئة التي تجري فيها الأحداث هي عصر الجاحظ والعصور الإسلامية السابقة.
وإذا كان الخبر قليل الحدوث أو طريفا سمي نادرة. وإذا أثار الضحك دعي فكاهة. وكان الجاحظ مولعا بهذا النوع من الفن، بل كان من طباعه، لا ينفك عنه حتى أثناء معالجته الموضوعات العلمية أو الفكرية الرصينة. وقد برر مزجة الجد بالهزل برغبته في الترويح عن نفس القارىء وطرد الملل عنه. وفي كتاب البغال يورد طائفة من النوادر المضحكة المتعلقة بالبغل. منها نادرة اللحياني الذي قيل له: علمت أن برذون صاحب الحبس نفق؟ قال: وألهفاه! أكنت أرجو أن يكسد فيخسر، فإذا هو قد باع وربح. فظن أن قوله: قد نفق من نفاق السلعة؟ ومنها نادرة نميلة بن عكاشة النميري الذي كان متكايسا،
1 / 13
ودخل دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثورا محللا، فقال: سبحان الله، ما افرهها من بغلة لولا أن حوافرها مشقوقة!.
وكثيرا ما تتناول الفكاهة الناحية الجنسية، ونلفي الجاحظ هنا يتنكب الحياء والإختشام ويسمي الأشياء بأسمائها عملا بمذهبه الطبيعي والتزاما بالواقعية فيورد مثلا النادرة التالية: «وتفاخر ناس يكبر الأيور، وشيبخ جالس لا يخوض معهم، فلما أكثروا قال الشيخ: لو كان كبر الأيور مجدا كان البغل من بني هاشم!» .
ويحتوي كتاب البغال على كمية كبيرة من الأشعار استشهد بها الجاحظ على المعلومات التي يحشدها حول البغل. لقد كان الشعر منهلا هاما من المناهل التي عبّ منها الجاحظ، فهو لا يورد فكرة أو يعالج موضوعا إلّا روى الأشعار التي تمت إليه بصلة قريبة أو بعيدة، ويمكن القول أنه روى لمعظم الشعراء العرب الذين عاصروه أو سبقوه ابتداء من العصر الجاهلي حتى القرن التاسع الميلادي، أمثال النابغة الجعدي ورؤية وأبي السمط والجماز وربيعة الرقي وأبي نواس والحكم ابن عبدل وحنظلة بن عبادة وأبي العتاهية وابن أبي أمية والوليد بن يزيد ابن عبد الملك والكميت وأيمن بن خريم الأسدي وعروة بن أذينة الليثي ويزيد بن معاوية ومحمد بن سيرين والنمر بن تولب وأبي دلامة وإبراهيم ابن داحة وغيرهم. وكثيرا ما يروي الشعر دون ذكر اسم صاحبه فيقول:
قال الشاعر، وقال آخر، وانشدني إبراهيم بن داحة لرجل ذهب عني اسمه، وقال بعض الشعراء وأنشد إبراهيم بن داحة لأبي الوزير المعلم كلمة لم أحفظ منها إلا هذه الأبيات.
إن غزارة الأشعار التي رواها الجاحظ في كتبه تجعل من تلك
1 / 14
الكتب مصدرا كبيرا من مصادر الشعر العربي يمكن الدارسين والباحثين الإفادة منها في أعمالهم.
*** وثمة خاصة أخيرة في كتاب «البغال» تسيء إلى قيمته العلمية هي فوضى التأليف. هذا العيب يسم سائر كتاب «الحيوان»، كما يسم كتاب «البيان والتبين» وهما أكبر كتب الجاحظ. وأبرز صوره الإستطراد أو الخروج عن الموضوع والعودة إلى بحث المسألة الواحدة في أكثر من مكان في الكتاب. فهو مثلا يبدأ كتاب «البغال» بالكلام على ولع الأشراف بالبغال فيذكر من هؤلاء الأشراف الذين اقتنوا البغال وآثروها ومدحوها روح بن عبد الملك بن مروان، ومسلمة بن عبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن المطلب الملقب برواض البغال لشغفه بها وحذقه بركوبها، والنبي ﷺ، وعلي ابن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وقطري بن الفجاءة، وخالد ابن عبد الله القسري، واسماعيل بن الأشعث إلخ. وعند ما يصل إلى عائشة والبغلة التي تمتطيها وهي ذاهبة لإصلاح حيين من قريش يستطرد إلى موضوع لا علاقة له بالبغال هو رواية الأخبار وما يعتورها من صنع وتوليد وذكر الرواة الكذابين والرواة الصادقين، ثم يعود إلى متابعة الأشراف الذين عنوا بالبغال واقتنوها.
والباب الثاني يخصصه لنوادر البغال فيورد أكثر من عشرين نادرة مضحكة تدور حول البغال أو تمت إليها بصلة كما يروي مقطعات شعرية لأبي نواس والحكم بن عبدل وحنظلة بن عبادة وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وغيرهم يغلب عليها روح الفكاهة والمرح.
ويدور الباب الثالث حول طباع البغال وأهمها الفتك بأصحابها
1 / 15
وتلونها وحرنها، وفضح البغلة لمن يكومها.
ويتناول الباب الرابع استعمال البغال في البريد وأهمية انتظام البريد في أمن الدولة، ويستطرد من ذلك إلى تفسير منام البغال كما يستطرد إلى مسألة لغوية حول اشتقاقات اسم البغل ثم يعود إلى الحديث عن بريد البغال.
أما الباب الخامس فيتحدث عن مسألة هامة هي الخلق المركب التي يشكل البغل حالة من حالاته، ويذكر حالات أخرى مثل الحمام الراعبي والسمع والكوسج واللخم والدجاج والخلاسي والكلب الخلاسي. ويستطرد إلى بغلة عكرمة بن ربعي التي مر ذكرها سابقا وإلى أشعار مختلفة تتعلق بالبغل وصفاته.
وفي باب سادس يبحث في أعمار البغل والحيوانات.
وينتقل في باب سابع إلى علاقة القضاء بركوب البغل. ويعقد بابا للكلام على أثر البيئة في الحيوان، ويليه باب في الكلام على سفاد البغل وسائر الحيوانات. وفي باب عاشر طويل يجمع الجاحظ متفرقات تتناول ذم البغال ومدحها تتخللها أخبار وأحاديث وأشعار كثيرة.
وفي باب أخير يعود إلى الكلام على الخلق المركب ويبدي رأيه فيه.
لقد برر الجاحظ فوضى التآليف تلك بطول الكتاب وقلة الأعوان والمرض والهم وتشتت الفكر كما برره برغبته في طرد السأم عن القارىء وذلك بعدم الإطالة في الكلام على الموضوع الواحد، وبالإنتقال من موضوع إلى آخر، لأن الإطالة برأيه تبعث الملل في النفس، والتنويع والإستطراد يبعثان فيه النشاط ويثيران الإهتمام. وإذا كان أبناء عصره
1 / 16
يتقبلون منه هذا التبرير فإننا أبناء القرن العشرين نجد من العسير علينا استساغة هذه الفوضى أو اغتفارها.
بيروت في ١/٧/١٩٨٨ علي بو ملحم
1 / 17
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وعلى اسم الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وصلّى الله على سيدنا محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة.
* [مقدمة] *
كان وجه التدبير في جملة القول في البغال، أن يكون مضموما إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفا، كسائر مصاحف «كتاب الحيوان» . والله المقدّر والكافي.
وقد منع من ذلك ما حدث من الهمّ الشاغل، وعرض من الزّمانة، ومن تخاذل الأعضاء، وفساد الأخلاط، وما خالط اللسان من سوء التّبيان، والعجز عن الإفصاح، ولن تجتمع هذه العلل في إنسان واحد، فيسلم معها العقل سلامة تامّة.
وإذا اجتمع على الناسخ سوء إفهام المملي، مع سوء تفهّم المستملي، كان ترك التكلّف لتأليف ذلك الكتاب أسلم لصاحبه من تكّلف نظمه على جمع كلّ البال، واستفراغ كلّ القوى.
فأمّا الهمّة وتشعّب الخواطر المانعة من صحة الفكر، واجتماع البال، فهذا ما لا بدّ من وقوعه «١» .
1 / 19
فليكن العذر منك على حسب الحال، والخيرة فيما صنع الله.
وقد علمنا أن الخيرة مقرونة بالكره، وبالله التوفيق.
1 / 20
* [باب ولع الاشراف بالبغال] *
نبدأ إن شاء الله، بما وصف الأشراف من شأن البغلة، في حسن سيرتها، وتمام خلقها، والأمور الدالّة على السرّ الذي في جوهرها، وعلى وجوه الإرتفاق بها، وعلى تصرّفها في منافعها، وعلى خفّة مئونتها في التنقّل في أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها، مع كثرة ما يزعمون من عيوبها ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خلق منها وكيف ظهر فضلها مع النقص الذي هو فيها؟ وكيف اغتفروا مكروه ما فيها، لما وجدوا من خصال المحبوب فيها؟ حتى صار الرجل منهم ينشد العذّال «١» فيها كقول السّعديّ:
أخ لي كأيّام الحياة إخاؤه ... تلوّن ألوانا علىّ خطوبها
إذا عبت منه خصلة فهجرته ... دعتني إليه خصلة لا أعيبها
ولقد كلف بارتباطها الأشراف. حتى لقّب بعضهم من أجل اشتهاره بها ب «روّاض البغال»، ولقّبوا آخر: ب «عاشق البغل»؛ هذا مع طيب مغارسهم، وكرم نصابهم، ولذلك قال الشاعر:
1 / 21
وتثعلب الرّوّاض بعد مراحه ... وانسلّ بين غرارتيه الأعور
وهجاه أيضا الفرزدق بأمر الحجّاج، ففحش عليه، حتى قال:
وأفلت روّاض البغال ولم تدع ... له الخيل من أحراح زوجيه معشرا
وقال لشريف آخر:
ما زلت في الحلبات أسبق ثانيا ... حتّى رميت بعاشق البغل
لو كان شاور ما عبأت به ... يوم الرّهان وساعة الحفل
وشاور هذا: رائض كان ببغداد، والشاعر رجل من بني هاشم؛ ولم يعن بقوله: «ما زلت في الحلبات أسبق ثانيا»: أنه جاء ثاني اثنين، وإنما ذهب إلى أنه جاء متمهّلا، وقد ثنى من عنانه.
وكتب روح بن عبد الملك بن مروان إلى وكيل له: «أبغني بغلة حصّاء «١» الذّنب، عظيمة المحزم، طويلة العنق، سوطها عنانها، وهواها أمامها» .
وكان مسلمة بن عبد الملك يقول: «ما ركب الناس مثل بغلة قصيرة العذار، طويلة العنان» .
وقال صفوان بن عبد الله بن الأهتم، لعبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن المطّلب، وكان ركّابا للبغلة: «مالك وهذا المركب الذي لا تدرك عليه الثار، ولا ينجيك يوم الفرار»؟ قال:
«إنها نزلت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلّة العير، وخير الأمور أوساطها» . فقال صفوان: «إنّا نعلّمكم، فإذا علمتم تعلّمنا منكم!.
وهو الذي كان يلقّب: «روّاض البغال» لحذقه بركوبها، ولشغفه
1 / 22
بها، وحسن قيامه عليها. وكان يقول: «أريدها واسعة الجفرة «١»، مندحّة «٢» السّرّة، شديدة العكوة «٣»، بعيدة الخطوة، ليّنة الظهر، مكربة «٤» الرّسغ، سفواء «٥» جرداء عنقاء، طويلة الأنقاء» .
وقال ابن كناسة «٦»: سمعت رجلا يقول: «إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العنق، نجدة في نجائها «٧» مشرفة الهادي «٨» نجدة في طباعها، ضخمة الجوف، نجدة في صبرها» .
والعرب تصف الفرس بسعة الجوف. قال الراجز:
غشمشم يعلو الشّجر ... ببطنه يعدو الذّكر
قال الأصمعيّ: لم يسبق الحلبة قطّ أهضم «٩» .
وقال يونس: كان النابغة الجعديّ «١٠» أوصف النّاس لفرس، قال فأنشدت رؤبة قوله:
1 / 23
فإن صدقوا قالوا: جواد مجرّب ... ضليع، ومن خير الجياد ضليعها
فقال: ما كنت أظنّ المرهف منها إلا أسرع «١» .
قالوا: ولم يكن رؤبة وأبوه صاحبي خيل.
وقال سليمان بن عليّ لخالد بن صفوان، ورآه على حمار: ما هذا يا أبا صفوان؟ قال: أصلح الله الأمير، ألا أخبرك عن المطايا؟
قال: بلى. قال: الإبل للحمل والزّمل «٢»، والبغال للأسفار والأثقال، والخيل للطّلب والهرب، والبراذين للجمال والوطاءة، وأما الحمير فللدّبيب والمرفق» .
قالوا: وكانت للنبيّ ﷺ بغلة تسمّى «دلدل»، وحمار يسمّى «يعفور»، وفرس يسمّى «السّكب»، وله ناقتان: «العضباء»، «والقصواء» .
قالوا: وكان عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، يكثر ركوب بغلة عبد الله بن وهب «٣» الشهباء، التي غنمها يوم النّهروان. هذا في قول الشيعة، وأما غيرهم فينكرون أن يكون عليّ، كرّم الله وجهه، يرى أن يغنم شيئا من أموال أهل الصلاة، كما لم يغنم من أموال أصحاب الجمل.
قال البقطريّ، ويكنى أبا عثمان، واسمه فهدان:
لقي رجل بكر بن عبد الله المزنيّ، فقال له: رأيتك على فرس
1 / 24
كريم، ثم رأيتك على غير لئيم، ثم رأيتك قد أدمنت ركوب هذه البغلة! قال: البغال أعدل، وسيرها أقصد.
عليّ بن المدينيّ «١» قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم «٢» قال:
حدّثني أبي عن أبي إسحاق، قال: حدثني حكيم بن حكيم «٣»، عن مسعود بن الحكم «٤»، عن أمه، قالت: كأني أنظر إلى عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، على بغلة رسول الله ﷺ الشهباء، في شعب الأنصار» .
ويروى عن عبد الرحمن بن سعد، قال: رأيت عثمان بن عفّان ﵁، على بغلة بيضاء، يضفر لحيته.
ومن حديث الزّهريّ وغيره، عن كثير بن العبّاس، عن أبيه، قال: كان رسول الله ﷺ يوم حنين على بغلته الشّهباء» في حديث طويل في المغازي.
وفي هذا الحديث: فحضّهم رسول الله ﷺ، وقال: «الآن حمي الوطيس» . وهذه كلمة لرسول الله ﷺ، لم يسبقه إليها أحد، وكذلك قوله: «مات حتف أنفه»، وكذلك قوله: «كلّ الصيد في جوف الفرا»، وكذلك قوله: «هدنة على دخن»، وكذلك قوله: «لا
1 / 25