فحدجته أمه بنظرة طويلة ثم قالت بحزم: ولا مليم.
أحزنها اعتراضه، ولكنها رحبت به لأنه أتاح لها أن تؤكد قولها بما لا يدع سبيلا إلى الشك فيه، ولكي يسمعه شخص آخر تخشى متاعبه أكثر من شقيقيه. وفتح حسنين شفتيه، وهمهم دون أن يبين، ثم قال بصوت منخفض: سنكون التلميذين الوحيدين اللذين تخلو جيوبهما من مصروف.
فقالت أمه بحدة: إنك واهم، المصائب كثيرة، والتلاميذ المصابون لا حصر لهم .. ولو أنك فتشت جيوب التلاميذ جميعا لوجدت أكثرها فارغا. وهبكما الوحيدين الفقيرين فما في هذا من عيب، ولست المسئولة عما وقع.
ولاذ حسنين بالصمت متذكرا أنه يخاطب أمه. كان دائما يجد عند أبيه من التسامح ما لا يجده عندها، وكان الرجل يحبه كثيرا فلم ينزل من نفسه هذه المنزلة إلا ابنته نفيسة. أما الأم فلم تكن تتخلى عن حزمها قط. ولما فرغت من الرد على اعتراضه استطردت قائلة: كذلك أحذركما من ترك نصيبكما من الغداء المدرسي كما تفعلان عادة.
وكان الشقيقان يقنعان من غدائهما المدرسي بلقمات معدودات كي يتناولا وجبتهما الرئيسية في البيت. وكان التلاميذ الذين يأكلون في المدرسة حتى الشبع موضع غمز عادة. فتساءل حسنين برقة: لماذا لا نأكل في بيتنا كعادتنا؟
فقالت الأم بامتعاض: من يدري؛ فلعله لن يتاح للبيت الطعام الذي تحب!
وارتسمت على شفتي حسن - الذي أصغى إلى الحديث كله في صمت عميق - شبه ابتسامة، أخفاها بتقطيبة مصطنعة، ولكنها لم تخف على الأم، فصمتت على أن تواجهه بالحقيقة - إن كان حقا في حاجة لذلك - بعد هذا التمهيد الطويل. فتساءلت بلهجة حزينة: وأنت يا حسن؟!
هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول! ولكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنها كرهته. إنها أبعد ما يكون عن هذا. ولكنها أسقطته من حسابها؛ فتوارى من مرموق آمالها في حسرة بالغة. انزوى في ركن مظلم، ولم يعد حبه يتحرك في فؤادها إلا مصحوبا بالأسف والحزن وقاتم الذكريات. وقد كان ولا يزال المشكلة المستعصية لهذه الأسرة. كان في البدء ضحية لفقر أبيه وتدليله، فلم يبعث به إلى المدرسة إلا في سن متأخرة. وسرعان ما ظهر تمرده على الحياة المدرسية، وتكرر هروبه من المدرسة، وتوالى سقوطه عاما بعد عام، حتى انقطع عنها ولم يجاوز السنة الثالثة. واستحال ما بينه وبين أبيه إلى نقار وشجار، ثم إلى ما يشبه العداوة الحقة، فكان يطرده أحيانا من البيت فيقضي أياما متسكعا ثم يعود إلى البيت، وقد اكتسب شرورا جديدة من مخادنة الأشقياء والغوص في الإثم والإدمان وهو دون العشرين. ولما بلغ اليأس من أبيه مداه ألحقه بحانوت بقال، فمكث به شهرا ثم طرده صاحبه بعد معركة كاد يذهب الحانوت ضحية لها. ثم عمل في شركة سيارات وطرد منها إثر عراك أيضا. ولم يعد يأبه لا بغضب أبيه ولا بحزم أمه، ففرض نفسه على البيت فرضا، يلقى سخطهم باستهانة أو بدعابة أو بشجار، ولكنه لا يتزحزح ولا يبحث جادا عن عمل. وبدا وكأنه لا يعمل للمستقبل حسابا، وظل سادرا مستهترا حتى فاجأه موت الأب. إنه يدرك خطورة الحال؛ فهو الوحيد الذي عرف مرتب أبيه، وقدر على وجه التقريب معاشه. وفهم ما تعني الأم بتساؤلها «وأنت يا حسن؟» «أنت تقولين إن الله لا ينسى عباده، وأنا عبد من عباده. فلننظر كيف يذكرنا. لماذا أخذ والدنا؟ ولماذا يعلن عن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟» ولكنه طالعها بابتسامة مؤدبة، وشعور ممتلئ عطفا وتقديرا للمسئولية، ثم قال: إني أدرك كل شيء.
فقالت المرأة في ضيق متسائلة: ما عسى أن يجدي الإدراك وحده؟ - لا بد من عمل شيء.
فقالت في انفعال: هذا ما نسمعه كثيرا. - الآن تغير الحال. - أليس ثمة أمل أن تتغير أنت؟!
Unknown page