وحاول حسنين أن يتذكر الصباح القريب بتفاصيله؛ فذكر أنه رأى أباه أول ما رآه وهو عائد من المرافق، فحياه كعادته قائلا : «صباح الخير يا بابا» فأجابه مبتسما: «صباح الخير، ألم يستيقظ أخوك؟» واجتمعوا بعد ذلك حول المائدة، فدعا الرجل الأم إلى مشاركتهم الطعام فاعتذرت بأن نفسها مصدودة، فتذمر الرجل قائلا: «إذا جلست معنا انفتحت نفسك» ولكنها أصرت على الاعتذار، فقال بعدم اكتراث وهو يقشر بيضة: «على كيفك.» لا يذكر أنه سمعه يتكلم بعد ذلك، اللهم إلا نحنحة مقتضبة. وكان آخر ما رآه منه ظهره وهو يدخل حجرته مجففا يديه في منشفته. ثم انتهى، انتهى، أبشع بها من كلمة! واسترق إلى حسين نظرة مروعة فوجده محزونا واجما كأنما كبر وشاخ، وعاد إلى ذكرياته وهو يكابد لوعة حارة: لا أصدق أنه مات، لا أستطيع أن أصدق. ما هذا الموت؟ لا أستطيع أن أصدقه. انتهى؟ لو كنت أعلم أن هذا آخر ما بقي لنا من عمره ما غادرت البيت. من أين لي أن أعلم؟ أيموت الإنسان وهو يأكل ويضحك؟ لا أصدق. لا أستطيع أن أصدق. وانتبه على أخيه وهو يجذبه من ذراعه إلى عطفة نصر الله التي كاد يفوتها في ذهوله. وسارا في طريقها الضيق تصطف على جانبيه البيوت القديمة، والحوانيت الصغيرة إلى ما يعترضها من عربات الغاز والخضر والفاكهة. وسبقهما البصر إلى عمارتهما ذات الأدوار الثلاثة، والفناء المستطيل الترب، ثم ترامى إلى أذنيهما الصوات، فتبينا صوتي أمهما وأختهما الكبرى، وهزهما حتى الأعماق فأجهشا في البكاء، وجريا لا يلويان على شيء، وارتقيا السلم مهرولين إلى الدور الثاني، فوجدا باب الشقة مفتوحا فتدافعا إلى الداخل، وقطعا الصالة إلى حجرة الأب في نهايتها، ثم دخلا وهما يلهثان. وثبتت عيناهما على الفراش وقد وشى الغطاء بالجسم الممدد تحته، ثم اقتربا من حافته وارتميا عليها وأغرقا في نشيج حار. وكفت الأم والأخت عن الصوات على حين غادرت الحجرة امرأتان غريبتان. وأرادت الأم أن تتركهما ينفسان عن صدرهما فتماسكت واقفة في جلبابها الأسود، وقد احمرت عيناها وانتفخ خداها وأنفها، أما الأخت فقد ارتمت على كنبة وأخفت وجهها في مسندها، وراح جسمها ينتفض من البكاء، وكان حسين يبكي ولسانه يتلو بطريقة آلية بعض السور الصغيرة؛ استنزالا للرحمة. وكان حسنين يبكي في جو من الخوف والذهول والإنكار. وقف حيال الموت محتجا ثائرا، ولكن في نفس الوقت خائفا يائسا، «ليس هذا بأبي. لا يمكن أن يسمع أبي هذا البكاء كله دون أن يتحرك، رباه لماذا يجمد هكذا؟ إنهم يبكون ولكن في تسليم من لا حيلة له. لم أكن لأتصور هذا، ولا أتصوره. ألم أره يمشي في هذه الحجرة منذ ساعتين؟ ليس هذا أبي. وليست هذه حياة.» وبدأ الانتظار وكأن لا نهاية له، فاقتربت الأم من الشابين ومالت نحوهما قائلة: حسبكما. قم يا حسين خذ أخاك خارجا.
وأعادت القول حتى قام حسين وأنهض أخاه، ولكنهما لم يغادرا الحجرة، وقفا يلقيان على الجدث المسجى نظرة طويلة غائمة بالدموع. ولم يستطع حسين أن يقاوم رغبة حارة غامضة، فانحنى على الجثمان، وكشف الغطاء عن وجهه دون مبالاة بالحركة التي بدرت من أمه، فطالعه الوجه الغريب موسوما بميسم الفناء، تشوبه زرقة مروعة، ويرين على صفحته سكون غير دنيوي، في عمق العدم ولا نهائيته، فسرت رجفة في أوصاله. لم يكن أحد منهما قد رأى ميتا قبل هذه المرة، فركبهما الخوف والأسى. ونفذ إلى أعماقهما حزن قهار إلى حيث لم تنفذ عاطفة من قبل. ومال حسين نحو الميت، ولثم جبينه فعاودته الرجفة. ومال حسنين نحوه كذلك، ولثم جبينه في شبه غيبوبة. وأعادت الأم الغطاء على الرأس الفاني، وحالت بينهما وبين الفراش، ثم قالت لهما بلهجة حازمة: اخرجا.
فتراجعا خطوتين، وتولى حسنين عناد طارئ فتوقف، وتشجع به حسين فتوقف كذلك. وجال بصرهما بالحجرة فيما يشبه الذهول، وكأنهما كانا يتوقعان تغيرا شاملا لا يدريانه، ولكنهما وجداها كالعهد بها لم يتغير منها شيء. هذا الفراش على يمين الداخل، والصوان في الصدر يليه المشجب، وإلى اليسار الكنبة التي ارتمت عليها الأخت، وقد أسند إلى حافتها عود انغرست ريشته بين أوتاره، وثبتت عيناهما على العود في دهشة ممزوجة بالحزن. طالما لعبت أنامل الراحل بهذه الأوتار، وطالما التف حولها الأصدقاء مطربين يستعيدون ويعيد، فما أعجب ما بين الطرب والحزن من خيط رقيق، أرق من هذا الوتر. ثم مر بصرهما الحائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش، لا تزال تدور باعثة دقاتها الهامسة، ولعل الراحل قرأ فيها آخر تاريخ له في الدنيا، وأول عهدهما باليتم. وهذا قميصه على المشجب وقد لاحت آثار عرقه ببنيقته، فرنوا إليها بحنان عميق، وقد بدا لهما في تلك اللحظة أن عرق الإنسان أشد ثباتا من حياته العظيمة. ولبثت الأم تنظر إليهما في صمت. لم تجر لها خواطرهما على بال، ولكنها كانت تدرك من هول الكارثة ما لم يدر لهما بخلد. وندت من حسنين تنهيدة حارة لفتت إليه شقيقه، فوضع يده على كتفه وهمس في أذنه: هلم بنا.
وألقى الشابان نظرة أخيرة على الجثمان المسجى وهما يعتقدان - بحكم العادة المتوارثة - أن عيني أبيهما تريانهما رغم الموت، فلم يولياه ظهرهما؛ أن يسيء إعراضهما إلى شعوره، وبعثا إليه بتحية قلبية، وتقهقرا إلى الباب ثم غادرا الحجرة. ولاحت من حسنين نظرة إلى أخيه فطالع في وجهه حزنا عميقا مؤثرا، فخفق قلبه وأحس نحوه بالعطف، كما أحس بحاجته الشديدة إلى عطفه.
3
وغادر الشقيقان الشقة إلى باب العمارة حيث اصطفت بعض الكراسي، فوجدا أخاهما الأكبر - حسن - جالسا في صمت وكآبة. وجلسا إلى جانبه يشاركانه صمته وكآبته. لم يكن لديهما فكرة عما ينبغي عمله، أما حسن فكان ذا تجارب كثيرة. وكان يشبه أخويه إلى حد كبير، بيد أنه اختلف عنهما في نظرة عينيه التي تنم عن جرأة واستهتار، فضلا عن أن طريقته في ترجيل شعره الكثيف المنفوخ، ولبس البدلة، دلت على عنايته بنفسه من ناحية، وعلى قدر غير قليل من الابتذال من ناحية أخرى. كان حسن يعلم بما ينبغي عمله، ولكنه لم يبد حراكا لأنه كان ينتظر مقدم شخص هام. وقد سأله حسين بتأثر: كيف مات والدنا؟
فأجاب قائلا وهو يقطب: مات فجأة فأذهلنا جميعا. كان يرتدي ملابسه وكنت جالسا في الصالة، فما أدري إلا ووالدتنا تناديني بفزع، فهرعت إلى الحجرة، فوجدته ملقى على الكنبة وصدره يعلو وينخفض. وجعل يومئ في ألم إلى صدره وقلبه، فحملناه إلى الفراش، وقدمنا له كوب ماء ولكنه لم يستطع أن يشرب. ثم غادرت الحجرة مسرعا لاستدعاء طبيب، ولكني لم أكد أبلغ الفناء حتى صك مسامعي صوات حاد فعدت فزعا، ووجدت أن كل شيء انتهى.
ورأى وجهي شقيقيه يتقلصان من الألم فازداد وجهه كآبة. كان يشعر بحرج شديد جعله يتوجس خيفة من شقيقيه أن يظنا بحزنه الظنون. كانا يعلمان بطبيعة الحال بما كان يقع بينه وبين والديه من شقاق وملاحاة بسبب حياته المضطربة المستهترة، فخاف أن يحسباه دونهما حزنا وأسفا. والحق أنه يجد لوعة الحزن والأسى. والحق أنه لم يبغض أباه قط على رغم ما كان. وإذا لم يكن حزنه كحزنهما فمرجع هذا إلى تقدمه عنهما في السن - كان في الخامسة والعشرين - وإلى تمرسه بالحياة حلوها ومرها، ومرها على الأكثر، الأمر الذي يلطف عادة من مرارة الموت. حقا كان قلبه يحدثه بأنه لن يجد بعد اليوم من يصرخ في وجهه قائلا: «لا أستطيع أن أعول رجلا خائبا مثلك إلى الأبد، فما دمت قد نبذت الحياة المدرسية، فشق سبيلك بنفسك ولا تلق بنفسك علي.» حقا لن يجد من يقول له هذا بعد اليوم، ولكنه لن يجد كذلك من يئويه إذا ضاقت به السبل، وكثيرا ما تضيق به حتى لا يوجد بها منفذ لأمل. إنه أعظم إدراكا لحقيقة الكارثة التي وقعت من هذين الطفلين الكبيرين، فكيف تنقصه دواعي الحزن والأسف؟! واختلس من الوجهين المحزونين نظرة سريعة من عينيه البراقتين، ثم عض شفتيه. كان يحبهما على رغم الظروف التي تدعوه إلى الحقد عليهما، وفي مقدمتها جميعا نجاح حياتهما المدرسية وتمتعهما بعطف أبيه. ولكنه لم يكن يرى في المدرسة ميزة يحسد عليها أحد، ومن ناحية أخرى كان مقتنعا بأن أباه يحبه كشقيقيه وإن ران على حبه السخط والغضب، وأهم من هذا كله أن الشعور برابطة الأسرة كان ولا يزال قويا في آل كامل بفضل الأم قبل كل شيء.
وعند الضحى أقبل عليهم رجل وامرأة في ثياب ريفية، فعرفوا فيهما خالتهم وزوجها عم فرج سليمان، وقد عزاهم الرجل وشاركهم جلستهم، على حين هرولت الخالة إلى الداخل وهي تصرخ «يا خراب بيتك يا اختي» فدوت العبارة في آذانهم دويا مفجعا وعاود الشابين البكاء. وراح عم فرج سليمان يحادث حسن بينما خلا الشقيقان إلى نفسيهما في صمت طويل، والتقت أفكارهما وهما لا يدريان في مصير أبيهما بعد الموت. وكان حسين راسخ العقيدة عن وراثة وبعض العلم، فلم يداخله شك في النهاية، وسأل الله بقلبه أن يلقى أباه في ذلك اليوم البعيد، وهما على أحسن حال من رضوان الله. وأما حسنين فكان في حيرة من كرب الموت لا يدع للعقل راحة للتأمل والتفكر. وكان يسلم بالإيمان تسليما وراثيا لا شأن فيه للفكر، وقد حملته أمه يوما على أداء الفرائض فأداها دون وعي، ثم هجرها في شيء من التردد دون تكذيب أو زيغ. ولم تتسلط العقيدة على فكره. ولم تشغل باله كثيرا، ولكنه لم يجد نفسه خارجا على حقائقها قط. وقد دفعه الموت إلى التفكير ولكنه لم يطل به، وسرعان ما عاوده التسليم تؤيده هذه المرة عاطفة حادة: «هل الموت هو النهاية؟ ألا يبقى من أبي إلا التراب ولا شيء من وراء هذا؟ معاذ الله. لن يكون هذا. إن كلام الله لا يكذب.» ولبث حسن وحده لا يشغله شيء من هذه الأفكار، ولم يستطع الموت نفسه أن يدعوها إلى رأسه، كأنه كان وثنيا بالفطرة. والحقيقة أنه لم يتأثر بأي نوع من التربية أو التهذيب. كان ابن الشارع كما كان يدعوه أبوه في ساعات الغضب. وقد طبع على العبث فلم يعد قلبه تربة صالحة لبذور العقيدة، وما انفك يتخذ منها مادة لمزاحه ودعابته، وحتى الأثر الخفيف الذي علق بقلبه من وحي أمه ضاع في خضم الحياة التي اكتوى بنارها. لذلك تاه به الفكر في وديان بعيدة عن الأبدية، تتركز حول هذه الحياة، وحظه وحظ أسرته منها. بيد أنه لم يطل به المكث مع شقيقيه وزوج خالته؛ فقد تراءى عن بعد رجل يهرول قادما، ما إن وقع بصر حسن عليه حتى قال بارتياح كأنه كان ينتظره: فريد أفندي محمد!
وكان القادم يجفف جبينه بمنديل على رغم لطافة الجو الخريفي، ولكنه كان بدينا مفرطا في البدانة، ذا كرش عظيمة، ووجه مستدير مكتنز لاحت فيه قسماته دقيقة صغيرة، على أن بدانته وكهولته وأناقته أيضا أضفت عليه وقارا مما يعتز به موظفو الحكومة، والكتبة منهم خاصة. وعلقت به أعين الأخوة برجاء يستحقه من كان جارا مثله، وصديقا قديما لأبيهم، وأقبل الرجل عليهم معزيا. ثم خاطب حسن قائلا: طلبت إجازة اليوم من الوزارة. هلم بنا إلى ديوان المرحوم لصرف الدفنة، ثم لابتياع اللوازم الضرورية.
Unknown page