وأدارت وجهها جانبا وهي لا تزال مقطبة كما بدا من انقباض حاجبها وزمة شفتيها، ولكنها لاذت بالصمت قليلا - مما بعث فيه روحا جديدا من الأمل - ثم قالت بصوت بدا ألطف موقعا مما سبقه: دعني أذهب، ألا تخشى أن يقتحم السطح علينا أحد؟!
رباه! ألم يعد يضايقها شيء إلا أن يقتحم السطح عليهما أحد؟! وتمشت في جوارحه نشوة سرور، فقال بحماس وعيناه العسليتان تضيئان بنور بهيج: دعيني أفصح لك عن شعوري؛ إني أحبك، أحبك أكثر من الحياة نفسها، بل ليس في الحياة من خير إلا أني أحبك. هذا ما كتبته، وما أقوله وما أعيده. صدقيني ولا تلزمي السكوت فما أطيق هذا السكوت.
فعطفت وجهها نحوه فطالع في صفحته النقية الرزانة والجد، ولكن خيل إليه أنه يرى نوعا من التأثر لعلها بالغت في كتمانه. ثم سمعها تقول بصوت منخفض كالهمس: حسبك! هلا تركتني أذهب؟!
تأبى أن تجلو هذه القناع! لشد ما تستكين لحيائها! وتنهد بصوت مسموع وتمتم: لا أريد أن أعود لعذابي بغير نفحة أمل، لقد فتحت لك صدري وأريتك قلبي، ولا أطمع في أكثر من كلمة طيبة ترد إلي روحي.
ولكنها بدت أعجز من أن تقول هذه الكلمة، واشتدت عليها وطأة الارتباك فندت عنها هذه العبارة: رباه! كيف أغادر هذا المكان!
فغلبه التأثر، ولكن زاده التعلق بالأمل عنادا وإلحاحا فقال بحرارة: لا تجزعي هكذا؛ إني أحبك، ألا يثير هذا الاعتراف في نفسك إلا الضيق؟! لن أعود يائسا إلى العذاب، لن ... لن. - وبعده؟!
وتفحص وجهها المورد في سمرة المغيب الهادئة فاستفزته عاطفة هيام جامحة، فشعر بأن الهلاك أهون من التراجع، وقال باستعطاف منبعث من الأعماق: كلمة واحدة! إذا لم تستطيعي فإيماءة ... وإذا تعذر هذا فحسبي صمت أستشف منه الرضا!
فتحركت شفتاها دون أن تنبس، ثم التصقتا، ثم عطفت عنه وجهها وقد اشتد تورده عمقا. ووثب قلبه في صدره من حرارة النشوة، وهتف في طمع متزايد: أهذا الصمت الذي أريده؟! إني أحبك، وأعاهدك أن أكون لك حتى الموت.
ومال وجهها إلى الوراء أكثر دون أن تخرج عن صمتها المحبوب، فسرت في جسده هزة سرور طاغية حتى سكر بصره، وما يدري إلا وهو يهفو إليها، ولكنها تراجعت في جفول كمن يستيقظ من حلم عميق على هزة عنيفة، وتفادت منه فيما يشبه الوثب، ثم ولت مسرعة. وتسمر في مكانه مرسلا وراءها بصرا هائما حنونا حتى غيبها الباب. وتنهد من القلب وأطلق بصره بعيدا في سمرة المغيب، والأفق أطياف وشيات، فأحس بروحه تذوب في الكون وتفنى في بهائه. ثم تحرك في بطء مخمورا متوهجا حتى شارف الباب، ولكنه شعر وهو يمر بالحجرة الخشبية الأخرى بشيء يجذب إحساسه فلاحت منه التفاتة إلى يساره، فرأى أخاه حسين واقفا وراء جدار الحجرة.
22
Unknown page