ثم ضحك ضحكة لم تخل من الارتباك واستطرد قائلا: حتى ينقضي وقت مناسب بين الخطبتين.
فخفض حسين عينيه وهو يتمتم: إني رهن إشارتكم.
وقام فريد أفندي وغادر الحجرة، وغاب دقائق، ثم عاد تتبعه بهية. ومع أن حسين حدس الأمر إلا أنه وقع من نفسه موقع المفاجأة البكر، فنهض باذلا مكنون قوته لتمالك نفسه، ثم مد لها يده في صمت، فتلاقت يداهما، وشعر بيدها على يده ناعمة الملمس رقيقة الموقع، باردة الملمس، فاهتز صدره ودر رقة وشكرا، وشعر بأنه ينبغي أن يقول كلمة، وألح عليه هذا الشعور، ولكنه وجد رأسه فراغا، ولم يسعفه الموقف بالتفكير فجلس دون أن ينبس بكلمة، وسرعان ما تناسى مشاعر الأسف المنبعثة من خرسه في موجة السرور والرضا التي غمرت حواسه جميعا، فنزلت عليه سكينة لطيفة أشبه بالشفاء الذي يعقب نوبة ألم. ما أجملها! كيف يعمى بعض الناس عن هذه المزايا المكتملة؟! إنها الوداعة والفضيلة اللتان ترويان الحنان الظامئ إلى حياة البيت السعيد، لا تثير استفزازا من أي نوع كان، ولكنها تبث سلاما وطمأنينة. لماذا جاء أبوها؟ ليس لهذا إلا معنى سعيد واحد، قال إننا موافقون، ثم جاء ببقية «إننا» شاهدا ملموسا، بوده لو يسعه أن يستخبر أفكارها؛ هل أفاقت من الصدمة؟ هل برئ الفؤاد؟ أبدأت حقا تستشعر ميلا إليه؟ ولم يتركه الوالدان لتأملاته فعاودا حديثهما الذي بدا الآن تافها متطفلا، ألا يمكن أن تحدث معجزة فيغادرا الحجرة؟ وقد التقت عيناه بعينيها مرة فتاه في صفاء وزرقة لحظة بهيجة، عنده ما يقوله، ولديها ما يقال بلا ريب، ومهما يكن من أمر فالأيام آتية، وسيفصح عما في ضميره؛ عن كل كبيرة وصغيرة. وفي أويقات ما بين الحديث كان يتجمع في إحساس رقيق سعيد أقنعه بأن في الدنيا سرورا خليقا بأن يكفر عن جميع أكدارها، سرور يقطر صفاء، ليدم طويلا، لتدم هذه الجلسة، هذه الحال ، هذا المنظر، هذا الإحساس، ليدم عمرا، ليشمل الحياة جميعا.
وتواصل الحديث، ولكنها لم تشترك فيه، اللهم إلا بإيماءة أو غمغمة، حتى وجب الذهاب فنهض مستأذنا، وسلم عليها، وغادر الشقة وهو يشعر لأول مرة بأنه مقبل من حياته على وقت حصاد.
84
وسافر حسين، وانقضت أيام من فترة الانتظار التي دعاها حسنين بمدة «تحت الاختبار». والتي عاناها في تجلد اضطراري، والأمل واليأس يتجاذبانه، وقد أسف على سفر أخيه لأنه كان يفضل بلا شك أن يتلقى رد أحمد بك يسري وهو غير بعيد عن مشورته، كان في الحقيقة يأنس إلى مشاورته، وإن غلب عليه الاستبداد برأيه والاندفاع وراءه؛ على أن إقدام حسين على الشروع في الزواج كان قد ترك في صدره راحة؛ لأنه كان في أعماقه متعبا لسبقه إلى استكمال حياته بالزواج، والآخر منزو تحت الأعباء كأنه محروم من الانتفاع بحياته، ولا يعني هذا أنه لم يكن مشغولا بمستقبل أسرته؛ فالحق أنه كان يرجو من وراء زيجته النفيسة خيرا كبيرا لنفسه ولأسرته على السواء. هكذا سوى متاعبه الداخلية بهذا المنطق ليفرغ لملاقاة حظه بقلب مطمئن، وإنه لعلى تلك الحال إذ دعاه أحد الأصدقاء من زملائه إلى موافاته إلى كازينو لونابارك بمصر الجديدة، وكان هذا الصديق - ويدعى علي البرديسي - أقرب زملائه مودة إلى قلبه، نشأت صداقتهما وتوثقت بالكلية، ثم حافظت على حرارتها رغم تعيينه هو بسلاح الفرسان، والتحاق الآخر بالطيران، ومضى إلى موعده فوجده في انتظاره، وجلسا معا في حديقة الكازينو، ثم طلب الصديق قدحين من الجعة، وأدرك حسنين من اللحظة الأولى أن صاحبه قد دعاه لأمر؛ لأنه على غير عادته - وبالرغم من مرحه الظاهر - بدا جادا متفكرا، وما لبث أن سأله: أتذكر الملازم أحمد رأفت؟
فقال حسنين بعدم اكتراث: طبعا، إنه من دفعتنا، وأظنه ضابطا بالطوبجية، أليس كذلك؟
فأومأ الصديق دلالة على الموافقة، وقال بضيق ومرارة: سمعته بالأمس يتحدث عنك في جمع من الإخوان بما أغضبني وساءني.
فحملق حسنين في وجهه بدهشة، كان يتوقع أي شيء إلا هذا، وتساءل في استنكار: ماذا قال ؟
فقال علي البرديسي بوجوم: كنا، أنا وبعض الأصدقاء، نلعب الورق في بيته بالمعادي. - وبعد؟ - لا أذكر المناسبة التي أثارت الحديث، كنا سكارى، ولكني سمعته يخوض في أمور تمسك، خبرني أولا هل سعيت حقا إلى طلب يد كريمة رجل يدعى أحمد بك يسري؟!
Unknown page