وكان الوقت ظهرا فراح حسين يخلع ملابسه، وقد بدا البيت لعينيه غريبا، بيد أن حبه العميق لأسرته ولبيته استيقظ ودر حنانا فملكه ارتياح شامل، ارتياح من اهتدى إلى مأواه بعد أن تخبط ضالا طويلا، وأجال طرفه في حجرة المذاكرة ؛ هذا المكتب القديم، وهذين الكرسيين، وهذه النافذة التي تقوم صفحة الجريدة منها مكان اللوح الزجاجي المحطم، كل أولئك ذكريات عزيزة، أما سريره فلم يعد له أثر، بيع في الوقت المناسب كالمتبع، ولحق بسرير حسن، وكأنه لم يعد من أهل البيت! ومع أنه كان يحدس هذا بالبداهة إلا أنه شعر بحزن وكآبة. وهنا شعر بنفيسة وهي تغادر الحجرة قائلة: أمهلاني ساعتين أعد لكما غداء طيبا!
وابتسم ارتياحا. إنه لم يذق طعاما طيبا منذ عهد بعيد، ربما منذ وفاة والده. أجل، كان طعامه طيبا وهو موظف أفضل من طعامه وهو تلميذ كما يشهد بذلك ارتواء جسمه، ولكنه لم يطلق لشهوته العنان قط. على أنه كان مشغولا بما هو أخطر من لذة الطعام، وهو تذوق عودته السعيدة إلى منبته الأول وجوه الأصلي، كان حنانه كالغنوة الحلوة يتردد في حواسه جميعا، حتى هواء عطفة نصر الله الفاسد وجد له ميل ألفة ورقة ومودة، فكأنه الصحة والعافية. وجعل يحادث أمه وعيناه تترددان في أنحاء الحجرة الصغيرة، حتى استقرتا على جاكتة حسنين المعلقة بالمشجب، فنظر إلى النجمة طويلا. سيرقى حسنين عاما بعد عام حتى يصير ضابطا عظيما على حين يبقى هو كاتبا في الدرجة السابعة - أو السادسة على أحسن فرض - طوال مدة خدمته، على أنه لم يجد أي أثر لشعور الحسد أو الحنق، كان أبعد ما يكون عن هذا، بل كان سروره بأخيه لا يدانى، ولكنه وجد نفسه يتأمل في صمت حزين الفوارق الطاغية التي تميز بين الموظفين، وامتد خياله وهو لا يدري إلى الفوارق التي تفصل بين الناس عامة؛ ترى ألا يمكنه إذا نقل إلى القاهرة أن يلتحق بمعهد ليلي عسى يتغير من حال إلى حال؟ وابتسم قلبه لهذا الخاطر السعيد وأودعه صدره كأمل احتياطي يلجأ إليه في حينه، فينجيه من مصير كمصير حسان أفندي حسان! وحتى حسان أفندي نفسه لم يكن ليرقى إلى الدرجة السادسة لولا الوزير الوفدي! وذكر عند ذاك أمورا سمع بها في طنطا، فساءل أخاه: هل حقا ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟
فضحك حسنين قائلا: غير مسموح للضباط بالاشتغال بالسياسة.
فضحك الشاب ثم قال: كيف تسقط بعد أن نفض الإنجليز أيديهم من سياستنا؟
وتساءلت الأم: أنعود مرة أخرى إلى المظاهرات؟ - من يدري؟
فعادت تتساءل بقلق: لا شأن للجيش مع المظاهرات؟
فقال حسين بمكر: إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش!
وضحك حسين، وأدركت الأم ما تعنيه ضحكته، فرمت حسنين بنظرة شزراء، وهزت منكبيها استهانة. وعادت نفيسة لتقول لهم إن الغداء يتهيأ على أحسن حال، ثم سألتهم عن السلطة المفضلة لديهم، وغادرت الحجرة مشمرة عن ساعديها والعرق يتصبب من جبينها، وساد الصمت فعاد حسين إلى أفكاره، وفكر هذه المرة في الإجازة وكيف يمضيها، كان الموظفون في طنطا يدعونه باليهودي لأنه لا يقامر ولا يسكر ولا ينفق أكثر من قرش واحد في القهوة، ولكنهم جهلوا حقيقة حاله. أجل، إنه ميال بطبعه إلى الاقتصاد، ولكن هل تركت مسئولياته له شيئا يقتصد؟! ولم تدعه أمه لأفكاره طويلا فعادت تنازعه الحديث، وخيل إليه أنها ترنو إليه بحنو نادرا ما تعلنه، ترى هل ذكرت كيف قست عليه يوما؟! لقد قست عليه حقا، ولكن قسوة الدهر عليهم جميعا كانت أعظم؛ ترى ماذا هي فاعلة مع حسنين؟ .. ولكن لماذا لا يبدو الفتى متحمسا لزواجه! لماذا لم يحدثه عنه؟! وحوالي الساعة الثانية جاءت نفيسة حاملة صينية الغذاء، فوضعتها على المكتب وهي تقول: نأكل اليوم على المكتب لأن الموظفين لا يصح أن يأكلوا على الأرض.
جمعتهم المائدة لأول مرة منذ عامين، ثم عادوا إلى جلستهم على الفراش الصغير، وواصلوا الحديث في أنس وسرور، وحوالي منتصف الرابعة دق الباب الخارجي فغادرت نفيسة الحجرة لتفتح للقادم، ووثب لرأس حسين خاطر عجيب؛ أتكون أسرة فريد أفندي قد جاءت لتهنئ العائد؟! .. وفي هذه الساعة؟ وعادت نفيسة جريا ووقفت على عتبة الحجرة وهي تنظر إليهم بعينين متسعتين تلوح فيهما الدهشة والانزعاج، ثم هتفت قائلة: ضابط وعساكر.
75
Unknown page