مستحيل أيضا! فالتحية عند الفراعنة كانت صباح الخير أيضا باللغة الفرعونية، وكذلك كانت عند قبائل الهنود الحمر في أمريكا، وبينهما مسافات بحرية ومائية لا يمكن اختراقها في ذلك الوقت، وكل مجتمع منهما قد نشأ مستقلا عن الآخر، لا يعي حتى بوجود أي مجتمع على الكرة الأرضية سواه.
لماذا إذن لم يحدث اختلاف فينشأ الفراعنة يحيون بعضهم البعض بصباح الخير، وينشأ الهنود الحمر يحيون بعضهم البعض بقولهم: حماك الله مثلا، أو سمعا وطاعة، أو أي شيء آخر غير تلك الكلمات نفسها؟
الواقع أني لم أفكر في الموضوع طويلا لاهتمامي بجغرافية الجنس البشري أو بدراسة تاريخه، ولكن الذي استرعى انتباهي حقيقة هو أن معنى تشابه التحية عند كل الشعوب والمجتمعات، أن طريقة انفعال الإنسان أو الجنس البشري واحدة، مهما اختلفت الظروف والأحوال. فالشمس حين تطلع على كل هذه المجتمعات المتفرقة المتباينة، المتأخرة والمتقدمة، تولد فيهم جميعا نفس الشعور، وتدفع كلا منهم أن يلتفت للآخر، ويقول: صباح الخير! يقولها بالعربية والإنجليزية والسنسكريتية واللهجات المحلية في أيسلندا وأفريقيا وأستراليا، ولكنه يترجم بها إحساسا واحدا شعر به، إحساسه باليوم الجديد.
وقد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ أليس الجنس البشري متشابها في ملامحه، فلكل إنسان أنف وفم وعينان؟ وهذا صحيح. ولكن التشابه هنا ليس تشابها في الملامح الخارجية، ولكنه تشابه في الملامح الداخلية؛ تشابه في التصرف، والتصرف عملية تفكيرية يخيل لكل منا أنها تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. وقد يكون هناك اختلاف، ولكن التشابه الذي أعنيه هو تشابه ما وراء هذه المظاهر الخارجية المختلفة، تشابه الأعماق تشابها أرسخ أقداما من كل هذه الاختلافات القشرية في اللون واللغة والمأكل والملبس؛ تشابها عميقا قد يبدو أحيانا في شكل تصرفات بسيطة جدا تمر أمام أعيننا دون أن نلحظها، مثل تلك التحية التي تواضعت المجتمعات البشرية على استعمالها من تلقاء نفسها، وبوحي من فطرتها الإنسانية فقط؛ تحية الصباح، تلك التي نتمنى فيها لبعضنا البعض - من بلاد الإسكيمو في الشمال إلى جوهانسبرج في الجنوب - صباحا طيبا خيرا نبدأ به يومنا الجديد.
تأملوا معي تلك الحقيقة، فربما أدى بنا التأمل إلى كشف حقائق أخرى لم ندرسها في الكتب عن الإنسان؛ ذلك المجهول. (2) الشيء الآخر
تعودت أن أذهب إلى عملي كل يوم عن طريق شارع قصر العيني وأعود من نفس الطريق؛ إذ هو أقصر الطرق التي تصل بين بيتي ومكان عملي. وأول الأمر كان المشي في شارع قصر العيني يبهجني؛ إذ كل ما كنت أراه فيه كان جديدا علي، ولكن طول المدة وكثرة التعود أفقداني لذة الإحساس بالشارع ومن فيه، حتى أصبحت أقطعه بلا وعي وبدون أن أفكر إلى أين أو كيف أسير، يكفي أن أضع نفسي في أول الشارع لأجدني أوتوماتيكيا قد وصلت إلى بيتي بطريقة تلقائية لا دخل للإرادة فيها، وكنت أستسهل تلك الطريقة اللاإرادية، ولا أفكر أبدا في تغييرها، وحياتي حين توظفت كان لها أول الأمر طعم جديد. كان المكتب الذي أجلس عليه أحس أنه حقيقة مكتب لامع وأنيق، وأحس حين أعمل عليه أنني حقيقة أعمل وأنتج، ولكن الأيام ... إن العادة لم تلبث أن أفقدتني الإحساس بالمكتب ودقات المنبه التي توقظني، ونظرة زوجتي حين أعود وحين أغيب، والطريقة التي أصفف بها شعري، وفنجان الشاي الذي أشربه في الفراش بعد غفوة الظهر. هذه كلها كان لها مثلما كان لشارع قصر العيني طعم وجدة، غير أنني فقدت الإحساس بطعمها وبجدتها، وأخيرا بها نفسها، وأصبحت لا أزاول حياتي بقدر ما أتحرك أوتوماتيكيا داخلها، وكأنها دائرة من أسمنت وأبواب وأقارب ومكاتب والتزامات أدور فيها مرة كل أربع وعشرين ساعة، أدور كالسجين المحبوس، بل حتى إحساسي بأني مسجون - الإحساس الذي كان يولد في نوعا من الثورة والتمرد والرغبة في التغيير - حتى هذا الإحساس فقدته ولم أعد أثور.
وأمس، فعلت شيئا تافها جدا لم أكن أتصور أن يكون له ذلك الأثر، وأنا خارج من العمل خطر لي خاطر، واحد من تلك الخواطر التي تخطر لنا ونلقيها من وراء ظهورنا ولا نحفل بها، الفرق أني تحمست للخاطر ونفذته، كان لدي وقت فقلت لماذا لا أغير شارع قصر العيني وأحاول أن أعود إلى البيت مرة عن طريق شارع آخر؟ وأخذت شارع الفلكي، ومن أول لحظة وضعت قدمي فيه بدأت حواسي تنتبه، وبدأت آخذ بالي من الشارع، أمشي حقيقة ولا أتوقف، ولكني لا أترك شيئا يمر من أمامي أو أمر من أمامه دون أن أراه أو ألحظه وأفكر فيه.
ويا للعجب مما رأيت! أشياء جديدة تماما على عيني، الشارع مختلف عن شارع قصر العيني، والبيوت مختلفة، بناؤها مختلف وروحها مختلفة، وكأنما لكل شارع طعم خاص وروح خاصة، والبلكونات حديدها مختلف، وحتى الملابس المنشورة على حبال الغسيل ألوانها بدت جديدة لعيني، وكذلك طريقة نشرها وتفصيلها. وكل شيء كنت أحس به؛ الأصوات، طريقة نداء الباعة، أشكال وأعمار وما يرتديه صبيان الدكاكين، وشلل الطلبة التي تحتل النواصي، واللافتات وطريقة كتابتها وما عليها من أسماء أطباء ومحاسبين وشركات. أسماء مختلفة جديدة لها وقع غريب على العين وطعم جديد على الذهن، وكل اسم جديد، ودكان جديد، وشخص جديد، يثير في نفسي عشرات الخواطر الجديدة، حتى عساكر المرور الذين من كثرة ما اعتدتهم في شارع قصر العيني، كانوا قد أصبحوا لدي مجرد إشارات آدمية بيضاء وسوداء تنظم حركة السيارات، وجدتهم في شارع الفلكي رجالا حقيقيين لهم شوارب ووجوه، ولكل منهم شخصية خاصة مستقلة، وطريقة خاصة في إعطاء الإشارات.
مشيت في شارع الفلكي ... وصحيح أني تعبت قليلا؛ لأن المسافة أطول، ولكني عشت بكياني كله في تلك الدقائق التي قطعته فيها، وكأني طفل يتفرج على دنيا جديدة لم تخطر له على بال.
وحين عدت إلى البيت بدأت أفكر فيه - البيت - وفي مشاكله بطريقة جديدة، وبروح جديدة، وبدأت أحس أني كائن آخر غير الذي غادره في الصباح.
Unknown page