الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Unknown page
الفصل الحادى عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Unknown page
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Unknown page
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادى عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
Unknown page
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
Unknown page
بيروت البكاء ليلا
بيروت البكاء ليلا
تأليف
شوقي عبد الحكيم
الفصل الأول
قال: كان ما يعجبني فيها أو لا يعجبني - لا أعرف على وجه الدقة، أحاول جاهدا الإيضاح - هي تلك الحكايات الصغيرة إلى حد الهيافة، والتي تنساب على التوالي من فمها مع طرقعات الليدن. مرت على شكل سريان الذكريات، تلك الأفعال المتراكمة كمثل قمامات المدن المحاصرة الموبوءة، إلا أنها على أية حال ذكريات تظل عالقة بالكائن، مثلها مثل الجلد والبصمة وحجم الفك.
وقال: إن المهم هنا هو الحكايات، لا من حيث إني جامع لها أغترفها من أفواه الناس، حين كان يأخذ طريقه في الصباح عبر الطرقات الزراعية، والغوص في أوحال البلدان الصغيرة والبنادر والقرى ضاربة القحط والسواد؛ بحثا عنها منسابة من فم لفم، أفواه جوعى وشائخة وجنائزية لندابات القرى والبلدان المحيطة، أناس عمال زراعيون ورعاة وصيع، تطحنهم مهنهم اليومية، والتي قد تمتد لأحقاب، مضافا إليها الجروح ... تلك الندبات الغائرة التي تولدها الأيام والليالي عبر رتابة تتابعها المتوالي، من ندبات قد تنبت مزهرة للحظتها، طارحة من فورها حصادها ومواتها المعجل، منها تلك النتئة أو الدمل الذي نبت للحظته مرة في قدم الخليفة العباسي الثاني السفاح، وما إن دلكته له خليلته المصرية من تانيس - الغادرة - حتى تمدد ميتا، السفاح يموت.
فكم من ندبات تحملها القلب! وكم من جراح كانت تفيض بها حكايات القرى وفابيولاتها! تسأل: أهي ذاتها الندبات، الجراح، حتى هنا، لعله ذات الفم، التم، الإيقاع.
كان قد قدم إلى بيروت هاجا بجلده من قهر مدن أكثر حصارا من القاهرة، وكان قد عبر سلسلة متوالية من المصائد والحصارات من جمارك وتفتيش مرورا بعمان، الزرقاء، دمشق وبيروت، ألعلها ذات الحكايات، الحواديت؟
قالت: انقطعت طفولتي بقرية الجنوب اللبناني السليبة - راشيا الفخار - منذ الطفولة وانقطاع الفطام. تربيت عند تيتا - في القنيطرة، وحين تعلمت المشي وجاءت أمي للعودة بي وتعميدي اخترتها أشبينتي. لم أكن أعرفها، وحين التقيت للمرة الأولى بإخوتي، غريبة تائهة، انهالوا علي ضربا جميعهم من كل جانب، كمثل جوارح صغار.
Unknown page
قالت: وها أنا ذا منذ لحظتي تلك نهبا للضرب الجماعي.
كانت المدينة المثقلة بالحصار والعدوان بيروت، مثلها مثل جسد بشري مقطع على هذا النحو أو ما يقاربه قليلا، تبدت لعينيه من نافذة السيارة التي استقلها من دمشق عبر تلال الجليد الممتدة، لا شيء يقطع الصمت سوى الطلقات المتبادلة عبر محاور أشلاء الجسد البارد الممزق، على عادة آلهة الاخضرار الذبيحة، تذكره إله فينيقيا الممزق، الذي لحقته أيدي الاغتيال وليس الموت، أدونيس، وتموز، ربط بينهما وبين أوزوريس مصر.
غمغم وهو يستجلي شعارات الجدران والميادين: جميعهم لحقتهم أيدي الاغتيال الجماعي عبر البراري، سواء أدونيس لبنان، أو تموز ما بين النهرين، أو أوزوريس مصر من سفلى لعليا.
كان قد زار عابرا الكثير من المدن الأقل خرابا. الناس على الدوام جميعهم غرباء، ويبدو أن الوحدة الجاثمة تجيء ملازمة للقوة واستهدافها.
ولعلها المقولة الوحيدة لفيلسوف النازية والتفوق «نيتشه»، التي يحفظها له كثيرا «الإنسان القوي هو الإنسان الوحيد.» ورغم أنها مقولة مرعبة، إلى حد ما يحدث من دمار، وتبادل إطلاق النار العنصرية على المحاور، إلا أنه تقبلها، وقد تكون أراحته كثيرا، إلى حد تقبله لحالات تمريض نفسه بالقيء والمغص الكلوي، وحالات التسمم بالسكر ، عبر الفنادق والبنيونات الرخيصة في باريس والكوت وأزور ومرسيليا وباب خضرا في تونس وسوسة، تلك المدن المذعورة بالخوف والتربص، وهو في كل حالاته غريب وسط غرباء.
في الأسواق الشعبية للحرامية وسلع البالات الروبابيكا، كان يحلو له الاستماع إليها، تلك الحكايات الصغيرة الأقرب إلى ألوان الأطفال ورسوماتهم، سوى من اختلاف ضئيل يتصل بالتصميم، ذلك الذي يمتلك الجسد الأساسي لكل حكاية مفردة؛ حتى لتصبح مثلها مثل الكائن البشري الحي المهاجر دوما.
قالت: مفيش حاجة بتاعتي.
قال: منذ الضرب الجماعي.
تذكر أن بالقرب من ذات المكان «الجنوب اللبناني» سبق له التعرف على الحكاية الأم، حين أقدم إخوة يوسف الصديق - ابن الجارية المضطهدة راحيل، ابنة لابان بن تاحور السوري الفلسطيني الحوراني - الأحد عشر على ضربه وإلقائه في أعماق الجب.
غمغم: «لعلها ابنة غير شرعية لأم شامية فلسطينية ترويها الجدات والتيتات مع رضعات اللبن منذ المهد؛ لتستقر في المخيلة، وعنها ينتج ويجيء - على عادة الإرث والتوارث - كل مسوخاتها، عبر جيل وما يعقبه وذاكرة وأخرى. الذاكرة مستودع الحكايات الصغيرة، أين هي فيما يحدث؟!
Unknown page
الطبيعة الراعدة عبر البحر والجبال، والنار على المحاور، وسيول السيارات والشاحنات الحبيسة الكسحاء على الطريق المتعرج ما بين دمشق ومداخل بيروت.
قدم هذه المدينة هربا بجلده من حصارات أكثر قسوة، لماذا كل ما بداخل حقيبته لا يعدو مخطوطات الحكايات الصغيرة والاستطرادية التي دأبت الشفاه على أن تلوكها بلا توقف أو هوادة، من حيث إنها تحفظ ما يمكن أن يشابه الذكريات، تلك التي مكانها الذاكرة، مستودع الحكايات الصغيرة، التي قد توغل في قصرها وإيجازها، إلى حد المأثور، النكتة، أين هي فيما يحدث من حصارات الجليد، ودوي الانفجارات، وتلك الشبورة الجاثمة الثقيلة المغيبة لكل مرئيات؟
وفي لحظة متقاربة، بل لعله «أتموسفير» متناسق، هو ذلك الذي جمع بينهما منذ أول لقاء، حيث جاء كلاهما من بلده ومسقط رأسه، ومرتع طفولته، هي من إحدى قرى الجنوب التي يحتضنها الجبل الشاهق المائل؛ راشيا الفخار، هربا من اعتداءات إسرائيل التاخمة، وهو من إحدى قرى الفيوم، وما اشتهر عنها منذ فخار ما قبل التاريخ والدولة القديمة، مرورا بفخار الإقليم الأرسينوي البطلسي الهليني الروماني والقبطي، وحتى أيامنا، حيث يقوم الفلاحون وحفارو المقابر بنهبه بالمقاطف والجوالات من «كيمان فارس» وأهناسيا المدينة، وأبو صير الملق، وجميع الهوارات السبع، واللاهون.
أكداس من التماثيل الفخارية المهمشة في عمومها كان يحرص في جمعها على ما تبقى منها من رءوس الآلهة والملكات والآلهات: إيزيس، حورس، نفتيس، هاثور، وإله الموتى حارس الرمم أنوبيس، الذي يحرص تجار الآثار على تلقيبه بأبي الحصين.
هي هي ذات البلدان التاريخية للموتى وما خلفوه للأحياء، هي بذاتها الموغلة في العوز واللاأمن.
قال: لعلها هي هي المعضلة الجاثمة لسيول السيارات والشاحنات الحبيسة داخل أكداس الجليد، ويشاع عبر نداءات السائقين وإجهادهم أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالهيلوكوبتر.
الأمن وافتقاده.
عبر كل المحاور الملتهبة بالجليد ونيران الميليشيات.
وبدا هو بدوره «المهاجر» بمنظاره ومعطفه المتهدل، وهو يرقب وجهه بلا تعمد في مرآة السيارة، مكفهرا.
كان قد بدأ يغزوه خوف حقيقي على محتويات حقيبته، نصوص حكايات فقراء فلاحي مصر ونداباتها التي دونها للمرة الأولى من أفواههم، أهازيجهم وغنائهم وندبهم الذاتي بقلم رصاص أو كوبيا، وظلت حبيسة عنده منذ أكثر من عشرين عاما إلى أن جمعها بترابها وأودعها حقيبته المهترئة هذه التي أصبحت غارقة في مياه الأمطار، والتي لا بد أنها لحقت ورقها الأصفر الرخيص المهترئ، إنها كل ما خرج به من بلده، سواء الفيوم، أو قاهرة السادات التي أدماها القهر، وألبسها شاراته - أو طرحاته - السوداء المهينة.
Unknown page
الفصل الثاني
رأى نفسه عبر الفراغ الجليدي اللانهائي ولدا صغيرا بطيء الإيقاع، يسعى عبر جموع زاحفة من صبيان وبنات وكهول وعواجيز ذات مطلع نهار - قبل طلوع الشمس - إلى أحد الموالد الموسمية القريبة، يتسمر مبهورا أمام الأراجوزات والخلابيص، ومقاهي الهواء الطلق، وحركات الغوازي والصييتة من المغنين الشعبيين، مواصلا تنقلاته عبر إيقاعات الأذكار، ومنشدي دلائل الخيرات، ودقات كوديات الزارات الهمجية المهيجة من سودانيين ونوبيين وصعايدة.
إلى أن كان يوم قرر فيه جمع وتدوين ما يسمعه من حكايات وأشعار من خضراء دنيوية لحمراء جنائزية، على ورق كراساته المدرسية، وكلما تراكمت نصوصها راح يسترجعها بالقراءة والتمثل على ضوء اللمبات الغازية، قبل أن تدخل الكهرباء بلدتهم.
لكم كانت رحلة شاقة وعرة مضنية امتدت لأكثر من ثلاثين عاما! ولكم هجر كل شيء بحثا عنها ... الحواديت، حتى مدرسته، ومساعدة والديه!
أصبح لا شيء يمكن أن يتملك مخيلته سوى السعي، بلاد وقرى إثر بلاد بحثا عنها من أفواه الناس، من سائلين وشحاذين ورعاة بهائم وندابات وممثلات وكوديات وحراس مقابر ولصوصها، الذين عادة ما تغشى عيونهم نهارا في وضح ضوء الشمس، لكنها تبرق ليلا، فيرون على عادة المعبودات الطواطم من كلاب وأبناء آوى.
حكايات تروى وتفيض في سرد مواجع وآلام بطلاتها من أطفال جنينية تعاني الاضطهاد والمطاردة منذ أن كن نطفا في بطون أمهاتهن الحوامل، لحين اكتمالهن على مدى انقطاع حيض النساء، عبر أشهر الحمل التسعة، وذلك حين أقدم عمال وبصاص كل من فرعون مصر مع موسى، ونمرود بابل وما بين النهرين مع إبراهيم الخليل.
وأخرى توغل في رصد معاناة فتيات - بنوت - كست الحسن والجمال في مواجهة زوجة أبيها، وإخوة كبار في صراعهم مع أشقائهم الصغار، يقطعن من أجسادهم بالسكاكين؛ لتتحول الأعضاء المتقطعة من فورها إلى نبات زهور الأكاسيا الدامي عبر البراري، وبحيرات التماسيح مفتوحة الأفواه للالتهام وعيونها تسح دموعا بلا هوادة في حالة أقرب إلى التحسر منها إلى أمراض العيون ورمدها، كما لو كن أناسا من بين الإنس مسخن إلى حيوانات خشبية مجففة، تسعى على طول البحيرات المسحورة، قارون، وبحر يوسف والنيل، عبر حالات التحولات والتبدلات في حكايات وخرافات سحر المشاركة والأثر، بين ساحر شائخ وصبيه الفتي الذي علمه كاره ومهنته يوما، ولما فاقه واشتد ساعده رماه، مثلما حدث بتمامه في حكايات السريان النساطرة والسورية واللبنانية بين وزير البلاط الأول الحكيم إحيفار وبين صبيه وابن أخته الانتهازي نادال أو النذل، الذي انتهى به صراعه مع خاله إلى أن يواصل ضموره وتضاؤله ليصبح كمثل قملة الحنطة، يفسدها إلى حد معادة الإثمار والازدهار في جدلية علاقتها، ملازمة الإفساد للنماء، والموت والانتفاء، لمعاودة الحياة.
من حكاية نسائية نمطية لزوجات خائنات تظل تواصل اختزالها عبر العصور ملخصة في مأثور، أو نكتة بذيئة وخادشة ومحرضة.
زوجات لصات وفتانات ومخلصات وشبقات، نادبات أحوالهن في بكائيات جنائزية ذاتية:
مسيكي بالخير يا عود الأنا يا روحي
Unknown page
يا للي تيابك على الجسم ترد الروحي
بكرة آخذ اسمي واسمك وأكتبه في اللوحي
وأعلقه في الهوا الطاير لأجل البكا والنوحي
ومنها:
يجازيك يا دي العدو يجازيك
يا للي بتبحت في حضانا
بعد الجميل ما كان رامي الرماميل
خليته جفانا
حكايات تلوكها الحلوق، وهي الأصل فيما يحدث، سواء الآن على المحاور، أو في ذلك الاضطهاد المزري إلى حد التكافؤ بالتجاذب.
أن يلتقيا.
Unknown page
الفصل الثالث
تذكر أنهم كانوا قد أخذوا الموسى بجرابه الأبنوسي من جيبه الخلفي حين ضبطوه معه، فتحفظوا عليه ووضعوه بعناية في خانة المضبوطات بجمارك عمان.
حين تجمهر حراس الحدود البدو قصار القامات بكاباتهم الزرقاء، فأحاطوه من كل جانب، وعاودوا التفتيش عبر جيوبه، حقائبه، واسته.
حاول إفهامهم في صمت مشيرا إلى ذقنه ورقبته، استراب الركاب وبقية المسافرين، وتحسس أكثر من راكب بدوي مناطق عنقه بعيونهم في استرابة.
الناس عبر حواجز الحدود والجمارك لا يعرفون بعضهم البعض سوى أنهم يتبادلون الكلمات العجلى.
على طول الطريق الصحراوي تتراص شاحنات وقاطرات المازوت.
تزايد سوء وضعه، حين عثورهم على بعض حبات لأدوية مختلفة، وقدم صول وكاتب مدني بيده قلمه ليجري التحقيق حول الموسى وأوراقه الكثيرة المهترئة الصفراء، وشرح لهم الوضع في صعوبة وحكاية الحكايات.
قال بأن الأمر لا يعدو بضع حواديت ونكات عامية وخارجة بذيئة لبطات وشحارير وأبراص وعناكب وزواحف، من تلك التي على بطونها تزحف، وترابا تأكل وتقتات.
هداهد لها هيئة الطواويس، ومن فصيلتها، رسل الحب بين بلقيس الملكة وسليمان الحكيم.
ضحك الجنود قصار القامات في حياء وكأن الأمر فاضح إلى هذا الحد، وربط الكاتب المحقق بملابسه المدنية بين الموسى الأبنوسي في جيب المهاجر وبين الأوراق والكراسات، الورق.
Unknown page
لماذا يكرهونه؟
كان له وجه طويل عظمي ناحل، وكان له «دقة» تركوازية لوشم ثلاث حبات هرمية لعنبات، أو تفاحات. يدخن بطريقة متواصلة، وبين وقت آخر يبصق في سلة بين قدميه، معاودا الكتابة والتلصص.
وأجابه: بأن من السابق لأوانه الربط بين أوراق حكايات قديمة كان قد جمعها منذ زمن من أفواه العامة بنفس ما يحدث في حالات جني القطن وآفاته، وهو أمر عادي غير ضار بالدرجة التي يربط بينها وبين الموسى، الذي لم يفارق جيبه الخلفي منذ الإفراج عنه عبر صحاري مصر المحاطة إحاطة الرمل بالواحة، وعبر سلسلة متناهية من محاولات الإطباق عليها وجها لوجه من كل جانب، على عادة ما يحدث مع الحيوانات الضارية، التي أفضت به بدورها؛ لأن يصبح مثلهم ومن فصيلتهم ضاريا.
دفع طاولة المحقق في الوقت الذي أطبقت عليه من كل جانب العساكر القصيرة في محاولة لمنعه من الوصول بمرفقه إلى طاولة المحقق، مجاهدا في عنف حقيقي لمقاربة سلة الزبالة بين قدمي المحقق الموشوم؛ لينكفئ باصقا مسعلا في عنف أقرب إلى السعار الطويل المصاحب للإغماء وحالاته، مهوهوا على عادة الكلاب الضالة: هو ... هو.
ظل يسعل مهوهوا منكفئا عبر مساحة الصمت المطبق وقيام المحقق المدني الموشوم على كرسيه الخيزراني مبتعدا، ووجوم العسكر، وذعر الصول السمين، إلى أن دفع له أحدهم بالسلة، وآخر بكوبة ماء، ثم شاي بالنعنع ولفائف، وانتهى الموقف بنجاحه في كبح ذلك البكاء الداخلي الملازم للسعال والسعار.
اعتذر للجميع وشدد عليهم مسلما، خاصة الصول الذي أشار بجمع حاجياته، وحين عاد إلى السيارة رحب به الجميع، وانطلق السائق الفلسطيني من أريحا عبر حواري عمان المتعرجة المتصاعدة، بموازاة البيوت الواطئة والمتعالية على مدى التلال التي تعتليها المدينة.
تزايدت النار على المحاور.
قال: يبدو أنها بيئة ملائمة لأن ينبت فيها نبي الصبر أيوب الدمشقي، فالناس هنا سواء: الركاب الأربعة الذين لا يجمعهم سوى السيارة وسائقها يبدون مستسلمين، حتى عندما سرت إشاعة أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالجرافات والهيلوكوبتر لخروج سيول على المحاور.
أينما وجد الناس تستعر النيران على كل المحاور.
كان قد خلفها في القاهرة، لتطالعه هنا في بيروت هي هي ، فلعله ذات الوهج، درجات التوتر، لزوجة الجلد الأصفر، الافتقاد داخل غابات المدن المعنية المحاصرة بالخوف والتربص، والتي تتحين في كل لحظاتها الغوص العمودي، الاختباء المصاحب للطرد، فهي في كل حالاتها وتواجدها طريدة، لا مكان لها في فلك القدماء ولا العائشين. إنها هي بعينها سليلة ذلك الحيوان أو الابن النوحي الطريد، لا مكان.
Unknown page
أجل هي حيوان الماموث الجليدي القطبي، الضال في طوفانات الحشرات وزواحف الأرض التي تفيض في سردها الحكايات القديمة، الغرق المحقق للابن أو الابنة الضالة ... الخوارج.
المدن.
الضواري.
ولعلهم يتواجدون بكثرة حتى هنا، إنهم يتكاثرون بمعدلات أكبر بالطبع سنة أو محنة عقب أخرى، وهم كانوا سببا دائما لهجرته ... شتاتاته، رغم انقطاع كل صلة يمكن أن تقربه من طرقهم، مقاهيهم، أفكارهم الموصلة إلى حد التدمير.
قال: لعله الموسى.
تحسس جيبه الخلفي منزعجا، في لحظة مشابهة لتلك التي أحاطت به فيها جند الملك سمر الوجوه والقفيان، وتذكر أنهم أخذوه.
الفصل الرابع
ما إن دق جرس الباب وفتحت له صاحبة المنزل وهي تلقي على وجهها الناحل العظمى الأصفر بمنشفة قطنية، متراجعة هلعة من منظره، بمنظاره وقامته العظيمة التي بدت مفرطة الطول في مواجهتها، مثقل تحت حقيبتيه الجلديتين وكيس ملابسه المنزلية.
ساعدته في إدخال حاجياته وهي تجاهد في تذكر اسمه، وقامت بدورها أختها هلعة من فراشها رغم النيران المستعرة على المحاور.
أزالوا بقايا المياه والجليد المتساقط من على معطفه وتحلقوا حول الفراش من فورهم يرتشفون الشاي، وحكى لهم في ملل قصير ما حدث، وعم صمت مفتعل اندفع المهاجر خلاله يحاسب نفسه، فلعله أيضا ذات الجو، ذلك الحزن الدفين الرابض في أعماق الفتاتين، وهو بدوره معهم، لماذا هو في كل حالاته، تذكر على الفور السور الطيني الممتد على طول مرمى البصر ومن داخله تمتد أشجار الكافور والسنط وذقن الباشا، للمقابر الممتدة في مواجهة شباك بيتهم الريفي، ولا ينقطع، لجنازات النساء المتشحات بالسواد، والنيلة التركوازية والزرقاء ضاربة القتامة تلطخ وجوههن وسواعدهن وهن يندبن، وينحن، ويرقصن في حلقات. وفي حالة نادرة، حين يكون الميت من «أسرة » وهو صبي صغير، لم يتزوج بعد - ويدخل دنيا - تستخدم الجنازات الدفوف الواسعة العنيفة.
Unknown page
بينما تستخدم جنازات الرجال المصاحبة المشيعة لنعش الميت فرق المزيكة الشعبية التي تستقدم من المدينة القريبة بكامل أزيائها الفرايحي الأوكر، وطرابيشهم الحمراء، وآلاتهم النحاسية تدق أمام المرحوم العازب، وكورس دلائل الخيرات ينشدون بأصواتهم الباص والباريتون، متبوعين بجوقات النساء.
كل هذا من أمام شباك بيتهم، وهو لا يزال يعتلي كتف أمه، يشهده يوميا عشرات المرات.
قال حين سألته كبراهن عن شروده وهي تميل عليه لتعطيه قطعة من البسكوت المجفف ألقى بها على الكنبة: تذكرت الحزن في مصر.
قامت صغراهن وكان لها وجه فينيقي ينحو إلى الاستطالة، وشعر أسود طويل مسترسل، وكانت تمقت المهاجر، تثاءبت طويلا وهي تطوق رأسها بمرفقيها، بيدها كتاب لمح عنوانه «الشقيقات الثلاث»: عن إذنكم.
تذكر تشيكوف، ذلك الأسى المقطر داخل المنازل، شقق عواصم المدن المحتدمة بالنار والتربص.
الناس حين تتبادل الأحاديث بلا طعم، أهمية، انتباه، في الشرفات، ومن حول المدافئ وألسنة اللهب.
حين يرتشفون الشاي، ويعانون من كره بعضهم البعض، الأم وابنتها وشقيقتها، الأم وأبناؤها الذكور والإناث، حيوانات البيت الأليفة، برامج أجهزة البث والتوتر.
قال: لعله شيء أو احتياج ضروري تعرفه بكثرة، وضوح أكثر في زنازين المنافي وقلاياتها على مدى الثلاثين عاما الماضية.
لكم وفق سارتر في مأثوره الملخص عن جحيم الآخرة، الابنة، الحبيب.
تعرف من فوره، حين نزع - بريهه - الأسود عن شعره وصلعته، أن كلتا الأختين تضيق بوجود الأخرى، إلى حد الكره.
Unknown page
وتذكر بالدقة أنه هو بذاته ما يجاهد في البحث عنه، بدءا من عمله - وكاره - ومهنته، وهو حقل حكاياته وطرائفها: الكره.
ذلك الذي يحاول الجميع تجنبه والإفلات من قبضته الماثلتين على الدوام ممزوجا في حنكة بنقيضه وتوءمه، من حب وتدله.
وهو ما أغفلته النصوص القديمة التي خلفها الموتى من الأسلاف والجدود، في ثنايا وصاياهم وتمائمهم المقدسة والمحظورة، ذلك أن الحديث عن نقيضه أنساهم واقعة الماثل المتواجد، سواء في ثنايا ذلك النقيض الوله يبطنه متدثرا، ويخالطه مخالطة التنفس.
إنه الشهيق الزفير
الخارج المنسل
عبر عمليات التلوث
عبر اللحظة
طرفة العين
ودقة ساعد
الناس هنا تحت الشرفة
Unknown page
في الشوارع ونواصيها
أين موتانا؟
قتلانا؟
أين؟
تساءل حين أخرجه من غفوته على حافة الفراش صوت الأخرى العظيمة الكبرى الطفولي: أحسن حاجة في الدنيا الحب. - لماذا يكرهها؟
صحيح أنه لا يعرف كلتا الأختين بالقدر الكافي، ورغم أنها فتحت له بابها في الساعة الثالثة ليلا وأخذت عنه أغراضه، حين لم يجد صديقه، لمجرد المعرفة العابرة للجيرة، إلا أنه يبدو غارقا في حرجه، إفلاته اللامجدي من قبضة تواجدها.
قالت: أخذوا كل شيء، الأم والأب ماتوا، والضيعة نهبت، حرتوا أرضها بالشاحنات والدبابات، قطعوا كل أشجار الحديقة، شجرتي وشجرة عالية، فاكهة من كل الأصناف، زهوري ... أحواضي.
مالت عليه مسرعة لاكرة، مشيرة إلى حجرة عالية التي كانت وقتها تسعل في عنف متلاحق عالي الصوت: أطلقوا النار على الوالد، والد عالية، في حديقة بيتنا الجبلي، من ثلاث جهات متقاربة.
صنعت بمعصميها العظميتين هيئة مثلث متساوي الأضلاع أطلت منه بوجهها فترة في مواجهته.
تعالى سعال العالية بشكل مجهد، وجاهد هو في ألا تعاوده الحالة. هب واقفا مزيحا الستارة عن الشرفة الزجاجية معاتبا.
Unknown page
المدينة كانت قد بدأت يقظتها، دويها اليومي مع مطلع ضوء النهار البيروتي، والحرب الأهلية العنصرية تعتصر رحيق أناسها وشوارعها.
ها هو الشارع في بيروت.
سعال صغرى الفتاتين لا ينقطع، بينما الأخرى تعدد مصائب بيتهم الريفي وضيعتهم الجبلية ذات الفردوس الصغير المفتقد الذي كان.
وتصور المشهد عبر أسطح العمارات الممتدة من حوله، العالية بجدائلها السوداء تقف في شرفتها مطلة على الوالد الهرم، مفتش البريد والبرق العتيد بسترته الداكنة وحقيبة يده الجلدية خارجا عبر طرقة حديقته المتعرجة، ومثلت الجنود الفاشست يطبقون عليه من أضلعه العدة مطلقين النيران في لحظة متقاربة.
الأب يسقط على وجهه في طين حوض زهور البنفسج، ومن حقيبته تتناثر الخطابات.
العالية تلطم وتسعل بشدة بلا صوت.
ولم يكن هناك بد من الخروج.
عاد المهاجر متخليا عن الشرفة، باحثا عن معطفه الجبردين إلى داخل الشقة.
وحين غطس بوجهه الطويل الضامر العظمي في ماء حوض غسيل الحمام الدافئ قال: تكفي مرة واحدة، حاله، البكاء ليلا، يكفي ما جرى، لولا ذلك الصول المكرش السمين، تذكر تعبيرات وجه، انكماشه بعيدا بحذاء الجدار المشاد من الآجر الأحمر، ويبدو أنه غطى جانب وجهه الملحم بقبضتيه يرقبه عبر أصابعه، بنفس ما فعلته الأخت الكبرى ... الماجدة، منذ هنيهة، حين أطلت عليه من مثلث ساعديها الصفراويين، وهي تصف الطريقة.
أزاح الصابون عن عينيه، فالشمالية تعاني آثار رمد قديم: حين أحاطت شلة الجند بالوالد في حديقة البيت، ودوت الطلقات، وسقط مدير البوستة، غاص وجهه بلا تعبير في طين حوض الورد ورغامه.
Unknown page
الفصل الخامس
عانى المهاجر حين اندفع خارجا من باب الأسانسير، ومدخل البناية الداخلي المطوق والمتعانق بجذع شجرة عنب عملاقة مجففة، ماتت منذ زمن.
عانى من استقبال عينيه لضوء النهار المتقدم، حين تلقفه الشارع، دلف عبر صفوف السيارات وتاكسيات الخدمة العامة والشاحنات، من جانب لآخر، ومن تقاطع لما يعقبه، تطلع هنا وهناك للقناصة على أسطح البنايات الشاهقة يدخنون ويفطرون في تراخ، تذكر البكاء ليلا.
تناول قهوته واقفا مشعلا غليونه في وجه المارة. الناس هنا لا يتطلعون في وجوه بعضهم البعض بالقدر الكافي، سوى أن أحدهم دلق بضعة قطرات من قهوته على سترته معتذرا.
وتطوعت عجوز بإزالة البقعة بمنديلها.
اندفعت مجموعة من الجنود جارية في أعقاب سيدة ضخمة حافية بيدها مشعل مضاء بالقار والزيت في وضح النهار.
وكما لو أن القهوة حركت معدته، ذلك أنه قاوم طويلا وسط الزحام والتدافع؛ لينتحي جانب الشارع مرجعا.
خلف نفسه ماشيا في اتجاه معاكس للجند الفارين أو المنتصرين، وعند آخر الشارع، شاهد المرأة تعتلي أطلال بناية قديمة بيدها مشعلها، وشعرها الطويل الفاحم استطلعها من زوايا الطريق فترة؛ ليجد أنها على ما يبدو اعتلت قاعدة نصب تذكاري أو تمثال رخامي متهدم وليست بناية، ومن حولها الجند، وراحت تخطب مهددة: قاتلوهم، سدوا الطرقات.
اندفع يجري في الجهة المقابلة، مسندا منظاره بيده اليسرى بينما الناس تتدافع من حوله، وتسبقه بمسافات واضحة القسمات، حتى النساء المنفضة من حول أفران الخبز والسوبر ماركتس وعربات الخضار، لينضممن إلى طوابير الجارين.
دوت طلقات الرصاص، وجاءه صوت المرأة الضخمة البنيان، وكما لو كان يعنيه هو بذاته: سدوا الطرقات ... المنافذ ... ادفعوا بأيديكم الطويلة، كل وكر وجحر وبطن أم.
Unknown page
حاول أن يستدير منفلتا في عنف من يد تحاول اللحاق به، حتى إن جيب سترته انقطع فلم يعبأ به جاريا متقدما بأقصى قواه، حتى إنه تجاوز بعضهم من الذين سرعان ما واصلوا تقدمهم ليجد نفسه في مؤخرة الفارين، عرضة لنيرانهم، أيديهم الطويلة إلى الخلف، وهم بالقطع أكثر سرعة، حنكة، توقد، كما أنهم يمتلكون أسلحة أكثر فتكا، مضافا إليها العقول، الخبرات، المناهج الملخصة، القفزات المباغتة للضفادع والحشرات النطاطة.
قفز بشكل أدهشه من قدراته، مخترقا صفوف النسوة والعواجيز المحتمين بالجدران، محافظا من جديد على تفوقه تقدمه أكثر إلى المقدمة.
جاهد طويلا في الاحتفاظ بتوازنه، ألا يصطدم بالباقين الأكثر حركة وعدوا، وتفادى محاولة من أحد الشبان لشنكلته بشكل واضح، حيث يسقط منبطحا. تلافي في حيوية أدهشته سقوط المنظار. كارثة، وضحك بعضهم من لخبطته وهو شبه منبطح على ركبتيه يجاهد طويلا في استعادة توازنه، استقامته قائما، ومواصلة العدو، بقامته الطويلة، وأطرافه العظمية المترامية، بينما ربطة عنقه قاتمة الزرقة تتطاير من حول عنقه، والتعليقات لا تكف عن ملاحقته.
حاول تعرف موقعه من الشارع الراكض بكامله من حوله وأمامه، وما إن حانت منه نظرة إلى الخلف حتى هاله أنه آخر الفارين.
دلف إلى حانة كمثل شق في جدار متناهي الطول والإظلام والإضاءات الخافتة الحمراء، ملقيا بنفسه على أول فوتيه صادفه، خلع منظاره وبيريهه، وفك وثاق قميصه. ظل يلهث ويسعل طويلا دون أن يثير أي انتباه.
كان من عادته عندما تغزوه النوبة وتقتحمه أن يركز بصره عن آخره على شيء محدد يتملك انتباهه دفعة واحدة.
وجاء ذلك الشيء: دمية لها حجم بشري، عرف فيما بعد أنها إحدى عرائس صقلية، بملابسها الكثيرة الزاهية الشعبية، ركبت فوق منصة إلى الخلف قليلا من المكان المعد للجوقة الموسيقية، لها شعر أنيق قصير كستنائي، وعلى صدرها النافر تتدلى الخرزات، وبإحدى يديها مظلة يابانية من الحرير الشيفون الملون.
اندفعت ترقص قافزة في الهواء رقصات صقلية على أنغام البيانولا، لحين الإيذان بخروج وفود الراقصات، ولهن هيئة الدمى وإيقاعها.
عرف من فوره وهو يجفف عرقه بمنديله أن الحانة يونانية، وبخاصة حين قدم له الساقي كوب ماء مثلج، فطالبه بمشروبه معتدلا وهو يعيد التطلع إلى المكان:
روم.
Unknown page
كانت الجدران مغطاة بورق حائط له ملمس القطيفة السوداء والحمراء القانية، وحتى طريقة استخدام الورود الصناعية والصحراوية والمحنطة جاءت متناسقة، مع إضاءات الشمعدانات الكهربائية ذات الأفرع الثمانية، وعلى طول المكان وقاعاته المتعرجة انتشرت مرايا طولية مقعرة ومحدبة.
ولما كان المساء قد بدأ يحط مع ارتشاف المهاجر لقدحه الثالث، بدأت وفود الزبائن تتوافر في جماعات، صبيان وفتيات في سن متقاربة جميعهم، وبعضهن سال لعابه من منظر دمى صقلية الزائرة هذه الليلة.
ومن المطبخ انتشرت أبخرة الأطعمة الشعبية، من إسباجيتي لسندوتشات اللحم بالعجين والنقانق والشواء.
وتسمر واقفا من فوره حين شاهدها داخلة في أعقاب شلة شباب، وتلاقت عيونهما الأربع.
قال: أيمكن أن يحدث أن أخلفها هناك في شوارع شبرا المظلات؛ لتدخل على هذا النحو.
اندفع ناحيتها من فوره معترضا سائلا، مشيرا إلى الشارع خارج الحانة القبرصية: عملوا إيه؟ - مين. - في الخارج.
تأملته مليا هي ذات العيون المطلة من تحت الجبهة المدفونة دفنا تحت الشعر.
قال: الفارين.
تعالت الضحكات المربكة من جوانب عدة، فانسحب من فوره عائدا معتذرا لها، منحطا على طاولته.
اتخذ أفراد الفرقة الموسيقية أماكنهم، وتعالت الموسيقى المحمومة الراقصة، وعلى الفور ازدحمت الحلبة بالراقصين من الشباب وبضع عواجيز.
Unknown page