Bayna Jazr Wa Madd
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Genres
هل ينبغي للأقطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربية؟ وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا الاقتباس: (أ) في النظامات السياسية الحديثة. (ب) في الأدب والشعر. (ج) في العادات الاجتماعية. (د) في التربية والتعليم؟
الجواب:
لم تقم إلى الآن في الشرق والغرب والشمال والجنوب سوى مدنية واحدة تعاونت الشعوب، على غير اتفاق، أن تتناوب العمل كل في جانب من جوانبها الموافق طبيعتها، فجاء الساميون بالعنصر اللدني والنبوي، وجاء الآريون (الهنود والفرس) بالفلسفة الباطنية والإلهيات، وجاء اليونان بالفن والفلسفة النظرية، والرومان بالنظام والتشريع والتجنيد والاستعمال، ولما تحضر العرب فعلوا ما فعلته كل من هذه الدول قبلهم؛ أي إنهم جمعوا شتيت ما وجدوا من عناصر المدنية، وسبكوها في قالبهم، وطبعوها بطابعهم، فكانوا وصلة أمينة قيمة بين الماضي والحاضر.
ولما حان الوقت نقلوا قبس الرقي إلى الغرب، فأحسن الغرب تلقي هذه المدنية العظيمة التي تجمعت فيها جهود الدهور، فأنماها من وجهها العلمي والآلي المتفق تمام الاتفاق مع السليقة الغربية، وسار بها شوطا بعيدا.
ولا يعني هذا أن الشرق ليس له مثل ذلك الاستعداد. إن أساس الهندسة، وخد الخنادق، ووضع مبادئ العلوم الفلكية والرياضية، جاء من آشور وبابل، كما كان الفينيقيون أول المستعمرين وأول من سلك البحار، وكما كان المصريون أول شعب وضع الأنظمة ونسق الإدارة.
ولو نظرنا مثلا إلى القانون الساري اليوم في المحاكم المصرية الأهلية (فضلا عن المختلطة)؛ لوجدنا أنه قانون نابوليون معدلا بعض الشيء وفقا لطبيعة البلاد. وقانون نابليون مأخوذ عن قانون يوستنيانس الروماني، وهذا جاء بقانونه من القانون اليوناني بعد تأثره بالمذهب الرواقي، والرواقيون واليونان جاءوا بأنظمتهم بعد تخليص الفرس وغيرهم من القانون المصري القديم؛ وهكذا لم يستنبط أولئك شيئا ، وإن نحن نعتنا الأشياء مجازا بأسماء الشعوب التي نأخذها عنها.
الاقتباس تبادل بين الأمم على مرور الدهور، وبينا يأتينا الأجانب يشيدون في بلادنا مدارس وجامعات يخرجون فيها ناشئتنا على أساليبهم في التربية والتعليم، ترى مثلا وزير الزراعة الأميريكية يخابر وزير الزراعة المصرية مستعلما عن طريقة زراعة القطن، وعن طريقة صيانته من الحشرات في وادي النيل، ليستعين بهذه المعلومات على تحسين زراعة القطن في البلاد الأمريكية.
هذا، فإن قمنا اليوم نزاور من أوروبا الأنظمة السياسية، والمنافع العلمية، والأساليب العمرانية والآلية والتجارية، وكل ما تبديه من نشاط حيوي جميل يشعرنا في الإنسان بفتوة وذكاء عظيمين. لو أعرضنا عن هذه المدنية الغربية، أو بالحري عن هذا المظهر الأوروبي والأمريكي من المدنية العالمية الكبرى، فإلى أي مظهر نتوجه وبأي الأساليب نأخذ؟ وإذا صمننا على أن لا نرى في المدنية إلا ما يزعجنا من ضلال وشطط فما نحن إلا ناسون أن هذا وجه الضعف البشري الذي وجد في جميع العصور، ولكن بأساليب مختلفة. وإذا انقطعنا عن حركة الحياة سجلنا على نفوسنا البله ونحن أذكياء، والخمول ونحن ناهضون، ولا يبقى لنا سوى ركوب الأظعان في البيداء، والسكنى تحت بيوت الشعر، والحداء الشجي في الليالي القمراء، والرقص بالسيف والترس.
لا أقول: إن هذه العيشة البدوية غير جميلة؛ إن فيها لهناء وراحة ونبلا، ولكن بشر أهلها باكتساح عاجل أو آجل؛ لأن الحياة تتأجج حواليها، وأصوات الآلات تهدر محلقة فوقها وعلى مقربة منها. إن الأرض تضيق بساكنيها، وحمى العمل تدوخ الشعوب، والأمكنة الصالحة الغنية مطلوبة لا غنى عنها، وللنشيط حق عليها؛ لأن نظام «الحق للقوة» نافذ في الطبيعة وليس هو من ابتكار المستبدين، فإن لم يكن أهل البلاد أقوياء عارفين بالطرق الحديثة مجارين حركة العالم اكتسحوا واستعبدوا، ونفذ فيهم قانون تغلب الأصلح.
في الأقطار العربية شخصية الماضي الذي لا بد أن تتكئ على بعضه دون أن يعارضنا في اكتساب ما يعود علينا بالحياة والحرية. عندنا عادات جميلة ووراثة أثيرة تحسن المحافظة عليها، غير أنها لا تكفينا، ليتغن بها الشعراء ولينشدها المنشدون ولينح عليها محبو الندب والنواح، ولكن مهماز الحياة وراءنا، واقتباس المحتوم لا يغض من كرامة الأمم؛ لأنها مركبة من روح وجسد، فشعرها وفلسفتها وفنونها وآلهياتها وأديانها وتذكاراتها الثمينة كل هذا بمثابة غذاء الروح، أما الحياة المدنية منها، الحياة الحسوسة، فلها أساليبها الآلية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وإلا فالغلبة والاستعباد. ولئن تحتم حمل القيود، فقيود يصيغها المرء لنفسه خير من قيود تربطه بها الأيادي الغريبة.
Unknown page