فنهرتها خديجة قائلة: هس ... ليس هذا وقت الغناء ... مريم في العشرين وفهمي في الثامنة عشرة ... كيف توافق نينة على هذا؟! - نينة؟! ... نينة حمامة وديعة لا تدري كيف تقول لا، ولكن صبرا، أليس من الحق أن أقول إن مريم جميلة وطيبة؟ ... ثم إن بيتنا هو البيت الوحيد في الحي الذي لم يعرف الأفراح بعد.
كانت خديجة - كعائشة - تحب مريم، ولكن الحب لم يستطع أبدا أن يخفي عن عينيها مواضع الانتقاد في المحبوب أيا كان شأنه، فلم يكن يعجزها - عند الضرورة - الوقوف عند مواضع الانتقاد فحسب، ولما كانت سيرة الزواج تثير مخاوفها الكامنة، وغيرتها، فقد انقلبت على صديقتها دون مشقة، وأبى قلبها أن يقبلها زوجة لأخيها، ومضت تقول: مجنونة أنت؟! ... مريم جميلة ولكنها دون فهمي بمراحل بعيدة ... فهمي يا حمارة طالب بالعالي، وسيكون قاضيا يوما ما، فهل تتصورين مريم زوجا لقاض كبير المقام؟! ... إنها مثلنا على أكثر تقدير، بل هي دوننا في أكثر من ناحية ولن تتزوج إحدانا بقاض!
وتساءلت عائشة في نفسها: «من قال القاضي أحسن من الضابط!» ثم سألتها محتجة: لم لا؟!
فواصلت الأخرى حديثها دون اهتمام باعتراضها: يستطيع فهمي أن يتزوج بفتاة أجمل من مريم مائة مرة، وفي نفس الوقت تكون متعلمة وغنية وبنت بك أو حتى باشا، فلماذا يتسرع بخطبة مريم؟! ... ما هي إلا أمية طويلة اللسان، أنت لا تعرفينها كما أعرفها.
وأدركت عائشة أن مريم انقلبت في نظر خديجة إلى جملة من العيوب والنقائص، بيد أنها لم تتمالك نفسها - حيال وصفها بطول اللسان تلك الصفة التي لخديجة منها أكبر نصيب - من أن تبتسم مستترة بالظلمة، وتحاشت إثارتها فقالت بتسليم: لندع الأمر لله.
فقالت خديجة بثقة وإيمان: الأمر لله في السماء ولأبي في الأرض، وسوف نرى ماذا يكون رأيه غدا ... (ثم موجهة الخطاب إلى كمال) آن لك أن تعود إلى سريرك بسلام.
عاد كمال إلى حجرته وهو يقول لنفسه: «لم يبق إلا ياسين، وسأخبره غدا.»
20
جلست خديجة وعائشة القرفصاء متواجهتين لصق الضلفة المغلقة من باب حجرة الوالدين بالدور الأعلى وهما تكتمان أنفاسهما في حذر وتمدان آذانهما إلى الداخل في اهتمام وتلقف. كان الوقت قبيل العصر بقليل، وكان السيد قد نهض من قيلولته فتوضأ وجلس كعادته يحتسي القهوة منتظرا الأذان ليصلي قبل عودته إلى الدكان، فتوقعت الأختان أن تفاتح الأم أباهما في الأمر الذي أنبأهما عنه كمال؛ إذ لم يكن أنسب لذلك الغرض من هذا الوقت. وتناهى إليهما من الداخل صوت أبيهما الجهوري، وهو يتحدث عن أمور البيت العادية، فأنصتتا في جزع وترقب وهما تتبادلان النظر متسائلتين حتى سمعتا أخيرا الأم وهي تقول في أدب بالغ ولهجة خاشعة: سيدي، إذا أذنت لي حدثتك عن شأن رجاني فهمي أن أبلغك إياه.
عند ذاك أومأت عائشة بذقنها إلى الداخل، كأنها تقول: «هذا هو الحديث» على حين راحت خديجة تتخيل حال أمها، وهي تتهيأ للكلام الخطير فرق قلبها لها وعضت على شفتها في إشفاق شديد، ثم جاءهما صوت السيد وهو يتساءل: ماذا يريد؟
Unknown page