Bayn Din Wa Cilm
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
Genres
أما الأضلولة الثانية فدارت رحاها حول القول بأن اضطهاد «غاليليو» ومحاكمته لم يكن السبب فيها إلا ذلك الصراع الذي قام بين الأساتذة الأرسطوطاليسيين من جهة والأساتذة المؤيدين للطريقة التجريبية الحديثة من جهة أخرى. غير أنهم هوجموا في موقفهم هذا وهزموا فيه بأيسر ما يتصور. فقد قيل لهم إذا كانت هداية الكنيسة وإرشادها أمور من المستطاع أن تنزل إلى ميدان يتصارع فيه أساتذة الجامعات، وأن تتخذ وسيلة يتذرع بها حزب من الأحزاب لتحريم الاعتقاد بحق قامت كل البراهين الكونية مؤيدة له، فكيف يمكن أن يعتقد مع هذا أن الكنيسة في ذلك الوقت كانت تفضل أي نظام إنساني دنيوي غير معصوم عن أن يزل ويخطئ، وأن يكون مقودا بعصبة من الجاهلين لا بطبقة منتقاة من الرجال الكاملين؟ وإذا صح أن يكون هذا البرهان سديدا، فإنه يدل على أن حالة الكنيسة كانت أسوأ بكثير مما قال فيها أعداؤها. وهنا بين صيحات الفرح التي كانت تبعث من أفواه فئة لم ينبض لهم من الخزي عرق، ولم يهتز لهم من الخجل عصب، لجأ المدافعون عن الكنيسة إلى وسائل أخرى.
قيل بعد هذا إن اتهام «غاليليو» كان «موقوتا» على أن في هذا الموقف من الضعف ما لا يدانيه ضعف في موقف آخر عمد إليه رجال الكنيسة؛ لأن هذه الكلمات التي استعملت قرار الاتهام نفسه برهان كاف لنقض هذه الأضاليل. بيد أن الاعتذار عما يعلن رءوس الكنيسة صراحة وبإجازة من حبرها الأقدس إزاء مذهب من المذاهب بقولهم: «مناقض لنصوص الكتاب المقدس»، أو «مناف للمعتقد الصحيح» أو «خطأ ومضاد للبديهة من وجهتي النظر اللاهوتية والفلسفية.» كما كان موقفهم إزاء مذهب «غاليليو» بأنه كان من الأمور الموقوتة أو المشروطة على شيء ما، لإسفاف هو بمثابة القول بأن الحق الذي تستمسك الكنيسة بعراه، عرضة لأن يغشاه الباطل حينا بعد حين. ومن هذا الميدان فر المدافعون عن الكنيسة أيضا كما فروا من غيره.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام نزاع وثار جدل، كان في بعض وجوهه أغرب من كل ما تقدمه وأعجب. فقد قيل «بأن ضلع الكاثوليك في تحطيم «غاليليو» لم يكن بأكبر من ضلع البروتستانت؛ لأنهم كانوا أكثر من لاهوتي الكاثوليك سعيا في حمل البابا على أن يأتي بما فعل.»
ولكن إذا كان في مستطاع البروتستانتية أن تجبر المقام البابوي على أن يمتد نفوذه إلى هذا الحد في مسألة من أخطر المسائل التي انطوى تحتها كثير من مشكلات الدين والسياسة بالغة الأثر، فماذا يكون أمر الاعتقاد «بعصمة البابا» وبأن سلطته البابوية وحكمته الإرشادية في مسائل الدين جميعها محوطة بالعناية القدسية من أن ينالها خطأ أو ينتابها زلل؟
وبينما كان اللاهوتيون يتراجعون من موقع بعد موقع، كان من ورائهم جمع من الجيوش الصغيرة العدد الضئيلة الأثر، فاضت على العالم النصراني بصور من التلميح والتعريض وألوان من السفسطة. ولقد وجهت كل الجهود إذ ذاك إلى غرض واحد هو تسويد ذكرى «غاليليو» من ناحية أخلاقه الشخصية. ولم ينس أعداؤه أن يعيدوا إلى الحياة ذكرى ما كان في أخلاقه من الشذوذ في عهد صباه، بل عمدوا إلى تضخيم الصغائر، وتكبير التافه من أمره. غير أن كل هذا كان ضئيل الأثر قليل الجدوى؛ حتى إنك تجد أن أعداء «غاليليو» - حتى في منتصف القرن التاسع عشر؛ أي في سنة 1850 - قد رأوا أن التراجع ضروري مرة أخرى، ولكن إلى مواقع أخذوا يرسلون منها قذائف جديدة، خصت بشيء من المهارة والدقة.
إن الوسائل الجديدة التي لجأت إليها الكنيسة تستحق عناية الذكر. كانت المستندات الأصلية عن محاكمة «غاليليو» قد أحضرت إلى باريس خلال غزوات «نابوليون بونابرت» في إيطاليا، ولكن الحكومة الفرنسوية ردتها إلى روما سنة 1846، بعد أن أخذت تلك الحكومة وعدا صريحا من السلطات البابوية بطبعها ونشرها. وقد عهد إلى المونسنيور «ماريني»
Marini
أن يكون واسطة نشرها على العالم.
كان هذا اللاهوتي من طابع أولاء من رجال الكنيسة الذين طالما رموا الكنيسة، كما رموا العالم بالبلايا والسيئات. فعلى الرغم من الوعد الصريح الذي وعد به البلاط البابوي، شاءت حكمة «ماريني» - أو شاء غروره - أن يكون أداة في يد السلطات الرومانية، تنكث بذلك العهد الكبير، وبكثير من الحذف والتحوير في كثير من المستندات، قد هيأ الأساليب لكل ضروب السفسطة والجدل الكلامي التي أريد بها تأييد عصمة البابا وصيانتها، كما أريد بها تحطيم سمعة «غاليليو» أن تبقى جلية واضحة دون الحق الثابت. وكان «ماريني» أول من بث تلك الضلالة الكبيرة، ضلالة أن «غاليليو» لم يحاكم ويحرم من جراء هرطقته بل لقلة أدبه.
والظاهر أن الأثر الأول الذي أحدثه كتاب المونسنيور «ماريني» كان مفيدا في الاحتفاظ بخط الرجعة الذي انتحاه المدافعون عن الكنيسة. ولقد كان في مساعدة كتاب من أمثال «وارد»
Unknown page