وعلى أية حال فلم يكن مسكني هو كل المشكلة؛ فقد كنت أنتهي من عملي كطبيب لورش السكك الحديدية في الثانية، وأتغدى، وما أكاد أطبق جفوني حتى أقوم مهرولا إلى العيادة وأظل أعمل فيها إلى التاسعة، ثم أجري إلى المجلة حيث أظل أعمل إلى منتصف الليل، وفي ليال كثيرة يمتد السهر إلى الثانية وربما أكثر، ثم أعود إلى البيت لا لآوي إلى الفراش وأنام، ولكن لأكتب أو لأعيد كتابة موضوعات ومقالات وتحقيقات للمجلة، وهناك قرب الفجر أنام على أن أستيقظ كل يوم في السابعة وإلا حدثت كوارث وأهوال! وكم كنت - ولا أزال - أضيق باليقظة المبكرة، خاصة بعد سهر حافل ممتد، إنها عندي تعادل المرض أو الموت، وطبعا لم أكن أستيقظ من تلقاء نفسي؛ إذ لولا صوت أم عمر الخشن الآمر، ولولا سواعدها القوية أحيانا، لما صحوت من النوم في أي يوم من الأيام. وإذا صحوت - والمصيبة أني كنت دائما أصحو - يكون أول شيء أفكر فيه أن أبتكر عذرا يعفيني من الذهاب إلى العمل في ذلك اليوم، ويتيح لي نوما هنيئا إلى الظهر وربما إلى العصر، وكنت في الغالب لا أجد عذرا وجيها؛ فإجازاتي العرضية والمرضية والاعتيادية كنت أستهلكها أولا بأول، والأعذار التي قد تخطر وقد لا تخطر على عقل بشر أستنفدها كلها ولا يبقى أمامي إلا أن أسلم أمري إلى الله وأقوم. أقوم إلى عمل كنت أبغضه أشد البغض؛ فلم يكن عملا، كان عملية تعذيب مؤلمة علي أن أتحملها كل يوم. كان عملي الكشف على العمال المرضى ومنحهم الإجازات، ولكن تسعة وتسعين في المائة من العمال الذين كنت أكشف عليهم كانوا أصحاء! والإجازات التي لم أكن أمنحها كانت تؤخذ مني رضيت أم لم أرض. وليتهم عامل أو عشرة أو مائة، مئات العمال يبلغون كل يوم أنهم مرضى ويحولون للكشف، وهم لا يبلغون لأنهم يتمارضون أو لا يريدون العمل، ولكن لسبب آخر مضحك؛ فالعمل كان يبدأ في السابعة تماما، فإذا تأخر العامل ربع ساعة يخصم منه ربع يوم كامل، وإذا تأخر ساعة يخصم منه يوم كامل، ومعظم العمال كانوا يسكنون في أطراف القاهرة حيث المساكن رخيصة، والظاهر أن معظمهم أيضا كانوا كطبيبهم لا يحبون اليقظة المبكرة؛ فكان عدد كبير منهم يصل متأخرا، وحينئذ يجد الواحد منهم نفسه مضطرا لأن يبلغ أنه مريض، فإذا ثبت هذا لا يخصم منه اليوم بسبب التأخير، ولكنه يعتبر إجازة مرضية بأجر. وعلى هذا كان معظم العمال يستهلكون العشرين يوما حقهم في الإجازة المرضية طوال العام، يستهلكونها في التأخير، فإذا مرضوا وانقطعوا عن العمل فعلا خصمت أيام المرض الحقيقي من يوميتهم؛ ولهذا السبب كان المريض منهم يظل يعمل ولا يبلغ عن نفسه، مخافة أن يمنح إجازة مرضية إجبارية تخصم منه.
كنت أذهب إلى المكتب الطبي كل يوم فأجد أمامه وعلى سلمه ما لا يقل عن الأربعمائة عامل يترقبون ظهوري ترقب الملهوف من اليقظة، وأحيانا يستغيبونني فتخرج منهم كشافة تنتظرني على الناصية وتعرفني بمجرد أن أطل من أول الشارع، فيتسابق أفرادها إلى المكتب الطبي يبشرون الواقفين بقدومي ويخترقون الأجسام المتراصة بالعافية ليصبحوا قريبا من الباب، ويعم الجماعة كلها موجة اضطراب وزق وزعيق وسباب لا تسكت إلا حين أقترب، فترتفع موجة من الترحيب المتحمس لي: وسع يا جدع لسعادة البيه، اتفضل يا بيه، ميت فل.
صباح نادي والنبي.
وأسمع همسات: دا مزاجه باين عليه رايق النهاردة.
ويعقب واحد: بيقولوا عليه صعب قوي، أما نشوف.
وينتهز الفرصة آخر فيقول بصوت عال يصلني: صعب إيه يا أخينا؟ والنبي دكتورنا ده أطيب واحد خلقه ربنا.
ومهما كان الازدحام فلا بد أن يصنع لي أخدود كأخدود موسى في وسط ذلك البحر المتلاطم من العمال، أخدود يكشف لي السلم ويكشف لي الباشتمرجي واقفا ينتظرني عند أوله. والباشتمرجي كان رجلا ضخما له شعر أبيض كله ومسبسب ووجه أحمر يصلح وجه باشا، وكان أصله عاملا من عمال الورشة ثم أصبح تمرجيا لا يدري كيف، ثم باشتمرجي لا يجيد ضرب الحقن بقدر ما يجيد التحدث عن الأصول والميل علي والهمس في أذني، وموضوعه المفضل هو سيرة الدكتور قيصر حكيمباشي السكة الحديد السابق الذي كان يعمل مكاني من عشرين سنة خلت، والذي كان بيك رسمي (العهدة على عم مرسي)، والذي كان يشخط في العامل فينطره خارج الحجرة، والذي كان، زيادة في الهيبة، يجلس إلى مكتبه وعلى يساره سماعة الكشف وعلى يمينه مسدس لا يتردد في رفعه على العامل لو لمح منه زمزقة أو اعتراضا.
ولكن عم مرسي الباشتمرجي كان يعود ويقول لي: والله غلابة يا سعادة البيه، ح يعملوا إيه؟ وراهم بيوت، والنبي وشرف سعادتك ما تكسفني، إديله أسبوع.
يظهر عم مرسي واقفا على السلم عند نهاية الأخدود وهو يتمتم في صوت أجش وقور: وسع يا جدع اتلم كده يا أخينا.
ثم يبتسم قبل أن أصل إليه ابتسامة واسعة كبيرة تريني طقم أسنانه كاملا، وتريني اللثة الصناعية الشديدة الحمرة، وقبل أن أصل إليه يخف ويمد يده ويقول: صباح الخير يا سعادة البيه.
Unknown page