وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخط بجواره، ويتوقف فيتوقف، ويحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، فتتسع التعرجات وتضيق.
وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق الحائط، فرسم الحجر خطا عصبيا متداخلا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهز رأسه هزات كمن يراود نفسه، وهز جسده أيضا، ثم التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخير حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في يده، ثم انكب على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدق فيها، وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة، وعقد يديه خلف رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميما» أخرى، وضم شفتيه ونفخ أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكب على الحائط من جديد وكتب «ميما» ثانية جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ونظر إليها، وكأنما هي أيضا لم تعجبه، فقد رمى الحجر من يده، واستأنف المشي وهو يمط شفتيه ويلوي بوزه.
وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة ونظر إلى الميمين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، وبحث عن الحجر بعينيه حتى وجده، ومن جديد انكب على السور، ورسم خطا رأسيا بجوار الميمين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعرقه يسيل، ويده الصغيرة العصبية قد تشنجت أصابعها كالكماشة على الحجر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا - الشعب - القنال.»
وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلا . وكأنما لم تعجبه الجملة فقد هز رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينا ويفتح الأخرى، ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرا، حدق في الخط برهة قصيرة ويبدو أنه لم يعجبه أيضا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ في يده الممسكة بالحجر، لينفض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافة من حواف الحجر لم يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينا ويفتح الأخرى.
وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة. وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ علامة الرضا الكامل.
وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه كاتبها. ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ويمضي في الشارع المشمس الواسع.
ه... هي لعبة؟!
الردح، كالزغاريد، فن مصري أصيل. وكما أن الزغاريد لا تجيدها كل النساء، فكذلك الردح، هناك متخصصات فيه، يحفظن عددا لا نهاية له من الشتائم والأوصاف، بعضها عادي، وبعضها فيه تشبيهات واستعارات وكنايات، وبعضها أدب خالص. ولا يكفي الحفظ بل لا بد أن يكون في استطاعة الواحدة منهن أن تلضم الكلمة في الكلمة بلا تردد أو توقف، وتصنع من الشتائم سيالا متدفقا لا ينقطع، فإذا انقطع وقع المحال. ولا بد للشتمة المستعملة من وقع وموسيقى ولا بد أن يكون للصوت المستعمل مقام معين، يرتفع في الأماكن المهمة إلى «السوبرانو» وينخفض عند بعض الكلمات الماسة إلى «الألتو» فمع أن المسألة شتيمة في شتيمة، إلا أنه هناك على كل حال شتائم لا تصح، ونحن شعب مؤدب وخجول بطبعه. ثم لا بد للرداحة من موهبة فطرية تستطيع بها أن تخرج أرفع الأصوات وأعلاها بأقل مجهود، حتى لا تستنفد طاقتها وحتى تستطيع الصمود؛ فالردح مسابقة والفائزة هي من يعلو صوتها ويظل عاليا إلى النهاية.
والفنون كالغذاء لا بد من مزاولتها على الدوام، وكان طبيعيا إذن ألا ينقطع الردح عن الحارة ليلا أو نهارا، ولا يعرف عطلة أو راحة.
وفي ذلك اليوم وشعبان عائد من عمله بعد الظهر بقليل، والدنيا تسبح في أشباه السكون، في ذلك اليوم ما كاد يضع قدمه في أول الحارة حتى دق قلبه، فقد سمع ردحا عالي الوطيس يواتيه من آخرها. دق قلبه لأنه خاف أن تكون الخناقة مع امرأته، وامرأته غلبانة من الأرياف، وإذا كانت الخناقة معها فعوضه على الله، فهي مبتدئة لا تستطيع أن تجاري بطلات المدينة، صحيح أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتعلم، ولكنها لا تزال «تطبش» كما يفعل الرجال حين يتعلمون السباحة على كبر. كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف في النافذة، وتوارب الشيش، وتحاول الرد على غريمتها، وتخرج ردودها بعد جهد، فهي ريفية خجول لا تستطيع أن تحشو فمها بكلمة فارغة مثلما تحشو نساء المدينة أفواههن، ولذلك فمهما قالت، فكلماتها تتساقط كأوراق الخريف أمام التيار اللافح الذي يهب عليها من فم غريمتها.
Unknown page