وحتى وأنا أرى صورته في الجرائد في اليوم التالي أكذب نظري، وأعود أتمعن في صورته، وأسمع صبحي جاد وهو يحدق في الصفحة ويقول: أما ولد! دا شارب من لبن أمه صحيح! ده باين عليه زي الوحش يهد الدنيا، شوف بيبص ازاي؟ الواحد سنه 53 سنة وما يعرفش يوقع ناموسة! وده يوقع طيارة بحالها! ويوقعها لوحده!
حتى وأنا أسمع هذا كله وأراه، كنت أتأمل أحمد الذي في خيالي، ولا أكاد أصدق.
لحظة أن كنت أكلمه، كان كل همي أن أعرف الخدمة التي يريدها لأستطيع القيام بها، وأحس أني بهذا أساهم بنصيب ما في المعركة، فقلت: أمال ...
وترددت، فقد خجلت، ولكني استطردت: أمال بتكلمني ليه؟
وما كادت الجملة تغادر فمي، حتى أدركت أني قلت شيئا سخيفا.
وأسرعت أتكلم وأمسح أثرها من الحديث، كما يمسح الإنسان كلمة كتبها خطأ، أسرعت أقول: قول يا أحمد عايز إيه؟ صحيح عايز إيه؟ أنا أخوك مفيش داعي للكسوف، قول لي عايز إيه؟
وسمعت صمتا في التليفون، وأدركت مدى الخجل الذي كان يعتريه، وطرقت أذني كلمة: أصل .. وأعقبها صمت قصير، أدركت أن أحمد لا بد يعض شفته السفلى خجلا؛ فتلك كانت عادته، وخمنت أنه سينطلق بعدها كالمدفع ويتكلم؛ فكلما كان خجله يجعله يتعثر في أول الحديث، فكذلك كان يجعله ينطلق بسرعة في آخره، قال: إنت عارف؟ إدوني ساعة أجازة بعد الحكاية دي، وأنا معرفشي نمرة إلا نمرة حضرتك، قلت أكلم حضرتك، دي حاجة هايلة أوي، مش كده؟ تصور طيارة تقع، أنا أوقعها، أنا أوقعها؟ أنا مش مصدق، بيتهيأ لي إنها وقعت من نفسها، ولا يمكن حد تاني وقعها! سلم لي على محمد كتير.
ثم تلجلج كمن لا يعرف كيف ينهي الحديث، وسمعت نحنحة خفيفة، فعرفت حينئذ أنه ينوي أن يدخل في الجد .. وجاءني صوته: إنما صحتي كويسة، أنا متشكر قوي قوي قوي.
وكانت آخر مراحل خجله أن يضحك، وكأنه لا يطمئن إلى الغلافين السابقين، فيلف كلامه بغلاف ضاحك ثالث.
وحين وضعت السماعة كنت لا أزال غير مصدق، أن أحمد طلبني فقط من أجل أن يخبرني بهذا «الشيء الهايل». وكانت السماعة لا تزال تضحك .. ضحكة دسمة موفورة الصحة.
Unknown page