وكان «ڤكتور» فتى مليح الشباب، جميلا، فائق الحسن، حاد المزاج، قابلا للانفعالات الشديدة، لم يتجاوز الثانية والعشرين من سنيه.
وقد جمع قواه إلى ذلك اليوم في محبة «ماري»، فكانت شهواته راقدة تحت ظلال التربية الحسنة، مستورة برماد الملاينة له فيما ينعطف إليه، فلم يكن يعلم من أحوال الحياة غير التي حصلت له بالتصور، وانطبعت منه في المخيلة، فمال إلى صرف العمر براحة وسلام بين والديه وزوجته وأولاده والكتب، ولم يكن أتى المدينة - أي بواتو - غير ثلاث مرات، ولم يلبث فيهن غير بضع ساعات، إذ كان يلم به الشوق إلى المنزل والوادي والغاب والروض النضير، فيعود متمنيا لو كان له جناحان ليطير، وجملة القول أنه كان قوي الطباع ذكيا، ولكنه غير مخرج بأساليب الحياة المدنية، فقد تصرف في تهذيبه أناس منحطون عنه عقلا وذكاء، فما علموه غير ما يعلمون، ثم جعلوا لخاطره حدا، وأقاموا من دون تصوره سدا؛ فبات لا يعرف مقدار نفسه، ولا يدري بما هو محتاج إليه. وكان الذي علمه مبادئ العلم والأدب قسا تقيا يقال له «برنار»؛ لهذا القس لم يكن واقفا على أسرار القلوب، ولم يكن عارفا بأحوال الرجال، فكان يحمد الله سبحانه على أن يسر له مثل هذا التلميذ اللين العريكة الصادق الإرادة، ولا يعلم أن من وراء تلك الأزهار بركانا، إن مسته شرارة أوقدت فيه نارا تهدم في طرفة عين ما بناه له من قصور الهناء والسلام لمستقبل الأيام.
أما «ماري» فكانت ساذجة كغيرها من بنات القرى، مماثلة لأليفها في عدم المعرفة بمقدار نفسها، جامعة بين فضائل النساء وشجاعة الرجل، وقد صرفت أيام طفولتها وأوقات صباها في حجر والدها وكان شيخا عاجزا ، فلم يكشف لها من أسرار الحياة غير المعروف والإحسان والحب الخالص، فكانت تهمل نفسها تفرغا للعناية بشأن من يحتاج إليها، وتبذل حياتها في سبيل من تميل نفسها إليه، وكانت جذابة العينين، معتدلة القد، زاهرة الطلعة، مليحة الجملة على أن الجمال كان أظهر من الحسن فيها. وقد جعلت نفسها وقفا على حب «ڤكتور»؛ لما ظهر لها بالبداهة من شجاعته وكرم سليقته، فكانت هائمة فيه مدلهة به وجدا وإعجابا على علم منها بحقيقة الحب، وعلى غير علم بسر الإعجاب.
فاقتران «ڤكتور» و«ماري» على هذه الملاءمة الظاهرية قد بشر البيتين بنعيم مستمر وعيشة مرضية؛ فلم يحذرا معه شيئا من عواقب الحالتين المشار إليهما في مقدمة الكتاب: حالة خلو قلب الرجل من الحب، وحالة دنوه من حد الملال، ولكن ذلك الاقتران قد صادف منهما حالة ثالثة غير مأمونة المآل، ألا وهي حالة عدم الاختبار؛ فإن الحب هو الوفاء، ولا بد في الوفاء من تمام العلم بالموعود، وما يحول دونه من العقاب والأمور الصعاب، فإن الخطر المجهول عسير الاجتناب.
وكان المتفق عليه بين البيتين أن «ماري» ووالدها يسكنان بعد الزواج قصر الكونت «ديلار» بوادي «مرلي»، فلما عقد القران في البيعة عادت العروس إلى بيت أبيها لتودع أحبابها وأترابها وأول أرض مس جسمها ترابها؛ فطافت مع زوجها بحديقة المنزل ثم دخلت غرفتها فيه لتنظر لآخر مرة ستائرها البيضاء وما حولها من أغصان الياسمين والريحان، وتودع الصورة التي كانت تستقبلها في الصلاة، فأثر فيها الوداع، فقالت ل «ڤكتور»: لن أعود بعد إلى هذا المكان ... وأنت تعلم أني سائرة عنه باختيار وقبول، ومع ذلك فبي من وداعه غصة لا أستطيع لها منعا، ولا أدرك لها سرا، وأني ذاهبة معك مستصحبة والدي إلى منزلك، فلست مبقية هنا غير هذا المنزل الصغير، وهذه الأزهار التي غرستها بيدي، ومع هذا فقلبي يكاد يذوب التياعا، فقل لي فديتك ما سر هذا الانفعال؟! فقال: إنك تجلبين علي الغم واليأس بما تتشاءمين، فإن ذلك يدل على ارتيابك بي وضعف اتكالك علي، يا شقيقة الروح أما تثقين بحبي؟ أما تعتمدين على شرفي؟ أوما تعلمين أني أحبك حب كرام الرجال؟!
فكفكفت الفتاة دمعها وتجلدت وسعها لتدفع الكدر عن «ڤكتور»، ثم تقدمت إلى قفص فيه بلبل غرد كانت قد علمته ضروبا من الألحان الشجية، فحلت رباط القفص وحملته إلى الحديقة، ثم نادت بابنة البستاني وأهدت إليها القفص وهي تقول: احفظيه يا خليلتي تذكارا وحينئذ:
سمعت فتاة الحي شدو البلبل
فبكت مودعة بدمع مسبل
فكأنما سمعته يشدو قائلا
قول المتيم في الحبيب الأول
Unknown page