وكنا كسر ضاق عنه ضميره
ولم يستطع كتمانه فأذاعه
فدار بنا العذال من كل جانب
يلومون لوما لا نطيق سماعه
وقد راع ظبي الحسن منهم رقيبه «وأصعب شيء ما يزيل ارتياعه»
ومضى على «ڤكتور» في هذه الحالة يومان، ولم يأته عن الباريسية الحسناء خبر، فكان يقاسي العذاب الشديد، ويحاول إخفاء ما به عن زوجته، فتراه بعين الفراسة فتكابد من جرائه عناء مرا، ثم جاء «ڤكتور» في اليوم الثالث رقعة ليس فيها غير هذه الكلمات:
غدا في الساعة الثانية في منزلي ب «أوتوبل»، وهي المرة الأخيرة.
فلما كان الغد وقرب الميعاد دخل «ڤكتور» على زوجته وقال: أيتها العزيزة لقد صرنا إلى حالة لا أريد فيها مخادعتك، إني سائر إلى «أوتوبل» ألقى بها مدام «ڤلمورين» آخر مرة، وعلي عهد الشرف لا أراها بعد ذلك، فثقي بما أقول فإني تأملت الأمر وتدبرته، وما أعد إلا ما أستطيع، وسأخبرك برجوعي متى عدت. - إني معتمدة عليك أيها الحبيب، فسر بحفظ الله واحفظ فؤادك وفؤاد تلك المسكينة من الألم والعذاب ما استطعت.
فركب «ڤكتور» عربته قاصدا «أوتوبل»، فلما وصل منزل المركيزة رأى باب الحديقة مفتوحا خلافا للعادة، فدخل واجتاز البستان إلى الدار، فرأى «أليس» تنتظره على موقف الدرج صفراء مكتئبة بدلت شدة الحزن هيئتها، وغيرت محاسن خلقها، فتلقته بوقار وتمهل يشبه أن يكون فتورا وقالت: هلم إلى غرفتي، فإني ههنا وحدي، وقد اخترت الانفراد توقيا واحترازا، ولكي لا يزعجنا أحد من الخلق، بل قل لسائق عربتك أن يسير بها إلى بيت الخولي ويربط الخيل هناك، وأغلق أنت الباب الخارجي وانزع مفتاحه، وعد إلي لننفرد فلا يرانا إلا الله، إن هذه الساعة رهيبة، وإنها آخر أوقات اللقاء.
فامتثل «ڤكتور» أمرها، ثم عاد فوجدها في الغرفة منطرحة على تكأة عريضة واهنة العزم ضحرا وتألما، وهي لابسة ثوبا أبيض وعلى شعرها زهرة ناضرة، وعلى صدرها باقة من الزهر، وكان في الغرفة ريح عطر وأزاهر من أشد الطيوب أرجا، فأثرت في نفس «ڤكتور» حتى كاد يغشى عليه، فمدت له «أليس» يدها، فتناولها وقبلها تقبيلا، فقالت: أرأيت كيف جعلت هذا الملتقى الأخير والوداع الذي ما بعده لقاء مزينا بكل ما جلب لنا السرور والصفاء في أوقات السعادة والهناء، فهاهنا في هذا المكان عينه قضينا أياما كثيرة مرت بنا كالأحلام، نجني زهر المنى من حدائق الحب «والعيش غض، والزمان غلام» ومن حولنا هذه الأزهار وهذه الدمى والتماثيل، فما أجدرنا بأن نجعل الوداع فيه لنذكر في ملتقانا الأخير ما مضى لنا من الفرح والهناء! أما تراني مصيبة يا «ڤكتور»؟
Unknown page