فقالت بهدوء: الصواب يتوارى عند احتدام الخصام ولكنه لا يفنى أبدا.
فقالت منيرة بازدراء: ليس أمامه اختيار؛ فإما يدور في فلك الولايات المتحدة وإما الموت جوعا!
ولكن العجوز كانت متفائلة، بل عادت تحلم بتجديد شباب البيت والحديقة، والمدفن أيضا.
وفي ذلك الوقت عهد رشاد إلى خاله محمد بمهمة بيع الأرض وشراء شقة له في حلوان فقام بالمهمة على خير وجه، واشترى له شقة جديدة في عمارة للتمليك في شارع الأمين غير بعيد من شارع ابن حوقل. أما مهمة البحث عن زوجة فقد تعثرت رغم كثرة الباحثين. ولدى كل فشل كانت كوثر تثور غاضبة وتقول: لولاه ما كان نصر ولا سلام!
وأخيرا أحرزت منيرة أول توفيق مع مدرسة في دائرتها التعليمية. كانت أرملة لمدرس، في الثلاثين من عمرها - تكبر رشاد بعامين - وأما لغلام في العاشرة، تدعى سميحة ، وقد شرطت أن يقيم ابنها معها. واستمعت كوثر للمواصفات والشروط بفتور، ولكنها سرعان ما غيرت رأيها عندما زارت سميحة في عين شمس ببيت والدها، فأقرت لها بالوسامة وقوة الخلق. ودعيت للغداء مع منيرة في البيت القديم - نظرا لظروف رشاد - فتم التعارف، والارتياح من جانب رشاد، فقال عقب انصرافها: نعمة من الله.
وتنبأت له جدته بالتوفيق والذرية. ونشطت كوثر وسميحة مع معونة محمد لتجهيز الشقة الجديدة وكان من المتفق عليه أن يقوم رشاد بالأعباء المالية. وفي نفس الوقت اتفق رشاد - بوساطة محمد أيضا - مع مقاول حدائق، لزراعة الحديقة بشجيرات الورد والأزهار كالفل والقرنفل والنرجس والحناء والنسرين وأشجار النخيل والكافور والسرو والحوار والأكاسيا. واستعادت روح العجوز مرحها فشعشع رأسها بالآمال وقالت: ما دام أمكن هذا فكل شيء ممكن.
وتم زواج رشاد في وقار وهدوء يناسبان حاله. وتذكرت سهام طريقها الأول فغشيتها كآبة عابرة وضاعفت من ساعات عملها بعزيمة ثابتة. العمل وحده يضمد جراحها ويفتح لها الأبواب. ولم تيئس من الرسو في مرفأ آمن ما دامت تهيمن على صياغة مستقبلها. كانت وما زالت مطمئنة إلى جمالها الفريد ولو أن الجمال لا يعفي من عثرات الحظ - وهل ينسى مثل عمتها منيرة - وكان ينتابها حنين إلى الحب والجنس أيضا، وتسرها مداعبات المعجبين وما أكثرهم، فتقول لنفسها أحيانا: في مكان ما يوجد رجل مناسب واسع الإدراك.
والتحمت رويدا رويدا بشبان وشابات ينتمون إلى رؤيتها السياسية، فأترعت حياتها بالأنس والخطر معا، وقالت لنفسها: لكل كأس عليه أن يشربها حتى الثمالة!
ولما يئس أمين من جدته كما يئس من أبيه من قبل قرر أن يكتب كتابه. وحظيت الفكرة بارتياح أهل خطيبته فضلا عن هند رشوان نفسها. بذلك وجد الفرص للترويح عن أعصابه وخف ضغط الحياة عليه. وكان - وابن خاله شفيق - يتابعان الإعلانات عن الوظائف المطلوبة في البلاد العربية. وسأل ابن خاله: ألا يعرقل موقف العرب الأخير مساعينا؟
فقال الآخر: علينا أن نجرب.
Unknown page