وعلت الكآبة المجلس والمأدبة، ولم ير سليمان بهجت بعدها في البيت القديم، لا بسبب نزاعه مع محمد فقط، ولكن لأن التحقيقات أدانت فيمن أدانت زوجته «زاهية» مثبتة استغلالها لنفوذها المستمد من المخابرات لإثراء غير مشروع؛ فقضي عليها بالسجن خمس سنوات. وأصابت ضربات التطهير أخا سليمان الضابط؛ فقضي عليه بالسجن أيضا، ووجد سليمان نفسه وحيدا ضعيفا بلا سند، مطاردا بسوء السمعة؛ مما اضطره إلى تقديم استقالته. وفي ذلك الوقت فرغ من بناء فيلا المعادي، فأقام بها وحده منتظرا عودة زاهية. وأنعش أمل قلب سنية الجريح فتصورت أن الأحداث تمهد لعودة العلاقة بين سليمان ومنيرة إلى سابق عهدها، ولكن منيرة قالت لأمها بصدق: لقد انتهيت منه تماما!
ولم يختلف هو عنها في ذلك فوهبت منيرة حياتها كلها للعمل ولابنيها. وقد ترقت مفتشة وازدادت جدية في حياتها، وإذا بها تحج بصحبة محمد ذات عام، وتواظب بعد ذلك على الفرائض مثل كوثر منتمية إلى أسلوب أمها في التدين لا أسلوب محمد، محافظة في الوقت نفسه على «ناصريتها» ملبية نداء العاطفة في ذلك أكثر من العقل، ورافضة التخلي عنه في سوء حظه، قالت: ما هو إلا ضحية للاستعمار العالمي!
وسارعت إليها الكهولة مثل كوثر وأكثر ولكنها - من حسن الحظ - لم تلحظ تغير وجهها الجميل كما لاحظه الآخرون، كما أنها لم تعد تستعمل أي أداة من أدوات الزينة. ووقعت مظاهرات الطلبة مفاجأة لها كما كانت مفاجأة لكثيرين. إنها أول تحد داخلي يواجه الزعيم من أخلص أبناء قبيلته. تردد الهتاف بسقوطه، وتطايرت في الجو السخريات المسجوعة. وتاقت الأنفس لحكم الشعب ولمعرفة الماضي على حقيقته. وجدت منيرة نفسها ممزقة، ففي جانب يتظاهر أبناؤها، وفي الجانب الآخر يقف زعيمها. وعجبت لموقف أمين وعلي كما عجبت لموقف شفيق وسهام. وسألت وهي تقلب عينيها في وجهي ابنيها: أليس هو الرجل الذي ثرتم لإبقائه؟
فقال أمين مرددا ما أفعم رأسه: يجب أن يكون الدور الأول للشعب! - أتريد رجلا آخر؟
فهز منكبيه قائلا: لا يوجد رجل آخر!
وتساءل علي في حيرة: ما جدوى التحقيق؟!
فسألت بإلحاح: أترومون تصفية الناصرية؟
فأجاب أمين: لسنا رافضين ولكننا غير راضين! - إنكم محيرون!
فقال علي ضاحكا: نحن حيارى!
وكانت الجامعة تستقبلهم واحدا بعد آخر. اثنان منهما نالا ما أرادا فالتحق رشاد بالكلية الحربية رغم معارضة كوثر، والتحقت سهام بكلية الآداب مستهدفة قسم اللغة الإنجليزية. أما شفيق وأمين فقد أرادا الطب ولكن التنسيق حولهما إلى الهندسة، وأراد علي الهندسة فمضى إلى كلية العلوم. وفي الجامعة دهمهم جو فائر بالبلبلة، صاخب بالأصوات الجهيرة المتضاربة. الدين .. الدين .. الدين، ما انتصرت إسرائيل إلا بالتوراة؛ فالحرب يجب أن تكون بالقرآن. الماركسية .. الماركسية .. الماركسية، هي التي تقتلع مجتمعا متهرئا من جذوره الخرافية لتشيد فوق أنقاضه مجتمعا علميا عصريا، العلم .. العلم .. العلم .. ما انتصرت إسرائيل إلا بالتكنولوجيا، وأملنا الحقيقي في العلم والتكنولوجيا. الديمقراطية .. الديمقراطية .. الديمقراطية، فما خسف بنا الأرض إلا الاستبداد. الناصرية .. الناصرية .. الناصرية، وما عليها إلا أن تخلص لمبادئها حتى نخلص لها. دوامة لا تسكن ولا تهدأ، والقلوب ثقيلة، والأنفس مريرة، والأفق متجهم، والشهوات مكبوتة، وأحلام اليقظة مرهقة. وقال شفيق لأبيه ذات مساء: نحن جيل من الضحايا، إني أصدق من يقول ذلك!
Unknown page