Balagha Casriyya Wa Lugha Carabiyya
البلاغة العصرية واللغة العربية
Genres
وهناك أحافير لغوية كثيرة في الشعر العربي القديم، فإن الشاعر كان يعيش في جو تلائمه كلمات معينة؛ فلما انقطعت الصلة بيننا وبين هذا الجو؛ صرنا نجد هذه الكلمات غريبة عن أذهاننا، وقلوبنا؛ فهي لا تضيء بصيرتنا ولا تنبه ذكاءنا ولا تحرك خيالنا، انظر مثلا إلى «الحداء» وكيف اتصلت معاني الفعل من هذه الكلمة بكثير من الشعر والنثر، وأدت الخدمة الأدبية في التعبير الحسن قبل ألف سنة. ولكن من يحاول استعمالها في عصرنا إنما يستعمل كلمة من الأحافير اللغوية التي يجب أن يجد مندوحة عنها في استعارات وعادات عصرية تلابس مجتمعنا.
واللغة التي تلابس مجتمعنا هي لغة السوق، والبورصة، والمكتب، والمصنع والنادي، والبيت، والكتاب، والجريدة، والمجلة، والمنبر، والمدرسة، أما إذا انفصلت واقتصرت على الكتاب وهجرت المجتمع فصار لنا لغتان فإن لغة المجتمع ستبقى حية، ولكن لا تجد العناية التي يستحقها الحي، فهي تعيش في وكس وضعف وتبقى اللغة الأخرى كأنها أحافير تحفظ وتصان كما تصان لغة الكهنة في المعابد عند المتوحشين.
الفصل الثامن
ضرر اللغة
كانت - ولا تزال - اللغة من أعظم الميزات البشرية؛ لأنها جعلت التفاهم والتفكير ممكنين، بل جعلت الثقافة تختزن وتورث من جيل إلى جيل آخر، ولكننا نجد أن اللغة كثيرا ما تحيل التفاهم إلى التباس، فيسيء بعضنا إلى بعض؛ لأنه يجهل الغاية من كلامه، وكلنا يعرف ظروفا مرت به حين كان في حوار مع آخرين، فكان يضطر إلى أن يسأل: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟
وهذا السؤال يدل على أن الكلمات تلتبس - بل تلتغز - معانيها بين شخص وآخر؛ وأنها لهذا السبب لا تؤدي الغاية الأولى منها، وهي الفهم والتفاهم. واللغة الحسنة هي التي يقل فيها الالتباس أو ينعدم؛ لأن لكل كلمة معنى معينا لا يتجاوزه ولا يتسع لهوامش تحمل الشك أو الغموض أو الزيادة أو النقص، كما هي الحال في كلمات كثيرة مائعة تسيل على الجوانب ولا تثبت في نقطة بؤرية.
واللغة بما ورثت من عادات ذهنية قديمة كانت شائعة قبل آلاف السنين قد حملت إلينا من المعاني ما لم نعد في حاجة إليه، بل نحن نستضر به، انظر مثلا إلى السباب الديني في كلمتي كافر ونجس، فهاتان كلمتان قد ورثناهما من عصر كانت العقيدة فيه أساس السلوك. ولم يكن الناس يستوون في الحقوق؛ لأنهم كانوا يختلفون في العقيدة ونحن نعيش الآن في عصر نقول فيه بالمساواة بين جميع الناس بصرف النظر عن عقائدهم، ونطالبهم بأن يجعلوا المنطق مرشدا لحياتهم، ولكن هاتين الكلمتين تحدثان انفعالا يسيء إلى السلوك العام في أية أمة، ونحن حين نسمي إنسانا «كافرا» نحرك عاطفة خسيسة للكراهة كما نفعل حين نسمي سمكة «ثعبانا» ونحمل الناس على كراهتها، فهنا ضرر اللغة واضح، فإننا إذا دخلنا معملا كيماويا وجمعنا فيه نحو عشرين شخصا من سلالات وشعوب مختلفة وحاولنا أن نميز بتجارب علمية دقيقة بين الكافر والمؤمن، والنجس والطاهر؛ لما استطعنا. بل إنا لنجد بالعلم أنهم (كما يقول: أسقف برمنجهام في ظرف مشابه) سواء.
وقل مثل هذا في كثير من الكلمات التي تحمل شحنات عاطفية سيئة، فإنها كثيرة في كل لغة، ونحن حين نحاول التفكير بالمنطق والتعقل في أي موضوع نجد هذه الكلمات تعترضنا وتسد علينا السبيل دون التفكير الناجح.
ومن أضرار اللغة - وخاصة في لغتنا العربية - هذه المترادفات التي تبعثر المعاني، وتبعدنا عن الإحكام في التعبير، ويجب أن يكون من قواعد التعليم للبلاغة الجديدة لهذا السبب محاسبة التلميذ في إنشائه على الكلمة الزائدة كما نحاسبه على الخطأ الذي يقع فيه حين يرفع مفعولا أو ينصب فاعلا.
ولذلك يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلا من مخاطبه العواطف، والبلاغة بفنونها المختلفة - كما هي الآن في لغتنا العربية - تخاطب العواطف دون العقل، وهذا ضرر عظيم؛ فإننا حين ننصح لأحد الشبان بأن يسلك السلوك الحسن في الدنيا ويتخذ أسلوبا ناجعا في الحياة نشير عليه بأن يجعل العقل والنطق - دون العاطفة والانفعال - هدفه ووسيلته في كل ما يعمل، ولكن البلاغة العربية في حالها الحاضرة هي بلاغة الانفعال والعاطفة فقط.
Unknown page