Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
قلت محتدا: من قال بأني لا أحياه؟ إني أنظر.
قال بصوت ممدود يتحشرج من أثر النوم: خلف ردا الظاهر والحاضر؟! وهم، وهم. من بؤرة هذا الحاضر تبصر ماضي الأزمان، وبعين الظاهر تجد اللب الكامن في الأشياء وفي الأبدان، وعلى مصباح الحاضر تهدي للدرب الصاعد في أحشاء الأيام. أوهام، أوهام. عض بأسنانك فاكهة الحاضر!
قلت كأني أعاتبه: من لا يحمل تجربة الزمن الغابر، فلن يدرك معنى الحاضر. ها أنا أحمل فوق الكتفين جبال الأجيال، وأوجه وجهي للخلف وأستقبل غرر الآمال. من لا يشرب خمر الآباء فلن تسكره كأس الأبناء، من لا يأكل زاد الآلاف من الأعوام، فلن يتذوق خبز اليوم الراهن أو ما يأتي من أيام.
تلوى صوته وتمطى كسلحفاة هرمة: حفنة كلمات من مقبرة الأموات، أد الواجب نحو اللحظة، وتعلم مما فات. لم تجزع من شبح الآتي؟ ما هو آت آت.
قلت منتصرا: ها أنت تردد كلماتي! في القطرة سر البحر، في اللحظة سر الأبد الهادر كالنهر، فيها الجنة إن شئت وفيها النار.
تثاءب بصوت مرتفع انبعث منه أنين كمواء قط عجوز يبعد اليد التي تعبث بشاربه ولحيته، وتطرد عنه النوم: اذهب يا ولدي، عد من حيث أتيت، وترفق بظلال عبرت وعظام. اذهب، اذهب، أكمل سمرك في مأدبة الأبد، ونادم كأس الأحلام.
قلت أناشده كلمة، كالشحاذ يريق الدمع، وماء الوجه ليأخذ من كف بخيل لقمة: يا أرباب الحكمة، قولوا كلمة، مصباح الحكمة صار يشع الظلمة، حاولت أن أكلمكم، أنتشل قواربكم، أنشر أشرعة خواطركم في وجه الريح العاصف بالنقمة، أخلع عنكم كفن النسيان، وأستحلفكم بالإنسان، أجعل منكم شاهد صدق فوق الزمن الطافح بالبهتان. معذرة، فاض القلب بما يحمل فانطلق لساني.
جاءني صوته المتثائب، الذي يقول آخر ما عنده ليمنع كل كلام: نحن جسور يا ولدي.
أسرعت بالرد، قبل أن يسقط في حفرة نومه: أنا أيضا جسر تعبره الأقدام، بعد قليل ينسى أو تطويه الأحزان.
قال في حسم كبريق السيف: فابن الجسر بنفسك، ولكل زمان جسر ثان. وانس المطلق، لا تبحث عنه وسط زحام الفانين، الفاني.
Unknown page