Bukāʾiyyāt: Sitt damʿāt ʿalā nafs ʿarabiyya
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
لا أستطيع أن أدعي شيئا من هذا ؛ فهي محاولات وتجارب فنية قبل كل شيء، قد تجد في «الدموع على حائط مبكاي» خيبة أمل مرة في النفس ، حسرة على عمر ضاع أكثره في الترجمة عن الآخرين أو التعريف بهم. شهادة صراع أليم عانيته وتمزقت منه بين العلم والإبداع (لعلي أكون قد بالغت فيه، حيث لا ضرورة للتناقض بينهما)، وقد تلمس في سطور المناجاة الشاعرية لنفس تبحث عمن تتحدث إليه (ولا أقول المناجاة الشعرية؛ لأنني لا أدعي القدرة على قول الشعر، ولن أدعيها. ولأنها فاجأتني في ثلاث ليال «يمنية» عشتها في صنعاء، ولا أظن أنها ستتكرر أبدا)، أقول قد تلمس فيها نقدا للذات ومراجعة لحياتها وحصادها ومحاولة لإقناعها بالاستمرار في الوجود والإصرار على الخلق والأمل في الفجر المقبل. وربما تحس في متاهة الكابوس (الذي أشهد الله والحقيقة أنني رأيته بحذافيره في نومي، ثم دونته بعد ذلك في تسعة أيام وليال لاهثة محمومة) مدى العذاب الذي قاسيته طوال عشرين عاما من تحول عشقي للفلسفة إلى مهنة أوجر عليها، وآكل منها خبزي، كما تشعر بالأحلام المحيطة والمشروعات المختلفة والآمال المهزومة، «ولحظات المطر» التي مرت خيولها مسرعة، ولم أتمكن من الإمساك بخصلات شعرها. وربما تفزعك البكائية إلى صلاح عبد الصبور بجوها الأسود القاتم، وتملؤك سخطا على براعتنا في اغتيال المواهب، وقدرتنا التي لا تبارى على قتل بعضنا لبعضنا. ولعلها أيضا تخيفك من «رعب أكبر من هذا سوف يجيء» تنبأ به شاعر وإنسان عظيم أرهقناه وعذبناه حتى الموت، وملأنا أيامه كمدا وحزنا. وربما نستشف من البكاء بين يدي أوفيليا هول الظلم الواقع على البريء النقي عندما يسقط في المستنقع «العربي»، فيكون موته الإرادي البطيء هو وسيلته الوحيدة للاحتجاج عليه والخلاص منه. وأخيرا قد يراودك الإحساس وأنت تتابع دموع أوديب بأنك تراقب «طيبة» أخرى وهي تنهار وتسقط، وبيد أبنائها تتحول إلى غابة يحكمها قانون الغدر. وتظل تضيق الخناق على ابنها الذي أنقذها ذات يوم، حتى لا يبقى أمامه إلا أن يجتث شجرة عمره بيديه، ويأخذ طفلته معه ويرحل. ربما تحس هذا كله، وتشعر معه بموقف أساسي ثابت لا يتغير هو رفض الاستبداد والتسلط وتأكيد الحرية برغم كل شيء، والكفر بأي قول أو فعل لا يصب فيها ويدافع عنها ويدعمها. ولكن هذه كلها شروح عقيمة ودعاوى باطلة. فالبكائيات كما قلت تجارب فنية. والتجربة لا تدعي شيئا ولا تدعو إلى شيء. إنها تريد أن تكون وحسب، تتمنى أن توحي وتحرك وتثير، لا تقدم أفكارا أو معاني مجردة، بل تحمل إشارات وأمثلة وحكايات ومواقف وصورا وبناءات لغوية تكفل نفسها بنفسها، وتسمح لمن شاء أن يقرأها كما يشاء. لكنها في النهاية جزء من «وصية» إنسان خاب أمله وأمل جيله، يضعها بين يدي جيل يحبو الآن على الدرب، أو أجيال لم تولد بعد، يضعها بين يديها وهو يقول: هذا هو كل ما استطعت. ربما يكون شوكا ما حصدت، لكنني تعبت وأخلصت. وإذا استطعتم أن تكونوا أقوى منا، وأقدر على تغيير الواقع، فتذكروا أنه كان قاسيا علينا. وإن ذكرتمونا يوما فسامحونا.
1985م
ملاحظات
تفضلت هيئة الكتاب بالقاهرة بنشر البكائية إلى صلاح عبد الصبور في ذكراه الأولى (أغسطس 1982م)، ولكنها لم تنشر هذا التعقيب الطويل الذي ظهر مع البكائية في عدد مجلة البيروتية (ديسمبر-يناير 1982م)، ولهذا رأيت إعادة نشره في هذه الطبعة.
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
Unknown page