Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
أوديب :
أنت وحدك وحدك يا حبيبتي التي يريد بحديثه، وعلى صدرك وحدك تسقط دموع ذكرياته. فاسمعيني يا حبيبتي، كوني عيني الثالثة، وانظري معي في سطور الماضي، الماضي الذي أفتحه الآن أمامك. أمامك أنت وحدك.
أنتيجونا :
أبي. أبي (تبكي) .
الجوقة (في صوت رهيب) :
تكلم يا أوديب.
2
أوديب :
انظري يا ابنتي تري أباك يشتعل بنار الشباب، يحوم كالفراشة حول أنوار الحكمة، يسأل الكتب التي يلتهمها فتصمت أو تنطق كلمات لا تفهم. إنه يتنقل في قصر أبيه وأمه في كورنثة ولا يكف عن السؤال. يتجول في شعاب الجبل والوادي، ويتطلع للنجوم ولا يكف عن السؤال. يختلط بالناس في السوق والجبل والحقل والمعبد، فيشير إليه الجميع: هذا هو الحالم الذي سيعيش ويموت وعلى شفتيه سؤال، وذات يوم تحداني أحد الشبان هل تستطيع يا ابن الملوك أن تبارز بالحربة وبالسيف كما تبارز بالأسئلة والألغاز؟ ثبت عيني في عينيه وقلت: لو كانت كل الألغاز كهذا اللغز لهان الأمر. قال ساخرا وهو يمتشق سيفه: ولكنه يحتاج إلى الشجاعة. قلت وأنا أجرد سيفي وأفاجئه بطعنة في صدره: إن كان هذا هو الحل فخذ! ارتمى على الأرض وهو يصيح: قتلتني ولم تحل اللغز! أقبل الرفاق فمنعوني من الإجهاز عليه. قالوا: مخمور لا يفيق دائما يجرح غيره، فاتركنا الآن نداوي جرحه. قلت: لن أتركه حتى يكشف عما في صدره، حتى يتكلم عما يقصده باللغز. تأوه من الألم وصاح: تعرف كل الأشياء، ولا تعرف نفسك. تسأل عن كل الأشياء، ولا تسأل من أنت. اندفعت نحوه وأنا أهتف: هل تسأل من أنا، وهل تعرف أنت أن أنين المذبوح: آه! إني أتألم من جرحي، لكني أتألم لك. لست ابن أبيك. جريت إلى القصر كمن لدغته أفعى، واندفعت إلى حجرة أبي فوجدته راقدا على فراش المرض مفتوح العينين. صعد بصره، وقال: ولدي؟ أشفقت عليه فلم أنطق. أشار بيده النحيلة، فاقتربت منه وطالعت على وجهه الطيب المكدود آثار الصراع مع العلة القديمة. ابتسم وقال: ماذا يريد البريء الجريء؟ ماذا يريد حبيب الفقراء والحكماء؟ قلت: وأخشى أن أخرجه من شفتي اعتدل في فراشه وهو يتأوه من الألم: ماذا يضنيك يا ولدي؟ كتاب تبحث عنه ولا تجده في خزانتي التي أتيت عليها؟ قلت: بل سؤال أكتمه منذ سنين، حتى أثاره اليوم شاب مخمور تصارعت معه. ضحك وقال: مخمور؟ تتلقى منه سؤالا أو تنتظر جوابا؟ أنت يا أوديب؟ قلت: أبي. من أنا؟ رفع حاجبيه دهشة: من أنت؟ ألم أنطق باسمك؟ تلعثمت وأنا أشهد التجاعيد التي تتلوى على وجهه: لا. لا. أقصد ... ربت على كتفي وضمني إلى صدره: أنا أعرف قصدك أكثر منك. الحكيم الصغير مثلك لا يسأل عن شيء زائل. ها أنا ذا أموت يا ولدي، وعندما يقترب الموت لا يبقى غير سؤال واحد: ما الإنسان؟ هذا هو السؤال الأكبر يا ولدي . أما من أنت، فهذا أمر واضح. لم أملك عيني من الدمع. لم أستطع أن أتحكم في صدري الذي أخذ يعلو ويهبط. أردت أن أصرخ: أقصد من أمي؟ ومن أبي؟ هل أنا حقا ابنك وهل أنت حقا أبي؟ لكنني لم أقو على إخراج كلمة واحدة. ورفعت رأسي عن صدره جففت دموعي. قلت: ربما يستطيع العراف في دلفي أن يجيبني. قال متعجبا: العراف في دلفي؟ هل يعرف من أنت سواك؟ اذهب يا ولدي. اذهب إلى فراشك. لقد توغل الليل. والليل يفرخ مسوخ الأسئلة السوداء. اذهب يا ولدي، فالفجر ينتظرك. قلت وأنا أقبله: أذهب يا أبي حتى لا يطول انتظاره. ضحك وهو يتابعني بعينيه الكليلتين. لم يدر أنه يراني لآخر مرة، وأنني سأسمع بعد ذلك عن موته دون أن أراه. نزلت على سلم القصر مسرعا. كان تصميمي على الخروج هو الذي يحث خطاي. ولم أكد أهبط الدرجات، حتى أحسست بثقل يشل قدمي، ويقبض على صدري. رجعت مرة أخرى، فأسرعت إلى حجرة أمي، فتحت الباب عليها فوجدتها نائمة. تأملت الوجه الطيب الذي طالما ضمني إليه. هل يمكن أن أغضب الآلهة، فأفزعه من نومه، وأسأله: أأنت وجه أمي؟ أغلقت الباب برفق، ورجعت أهبط الدرجات بين دهشة الحراس وابتسامهم، وعندما وقفت على الباب الخارجي لم أستطع أن أتلفت ورائي. كان السؤال الكبير يجذبني إليه ويناديني. وكنت أحلم أن أسمع الجواب على لسان العراف، فاندفعت على الطريق الطويلة بلا تردد.
الجوقة :
Unknown page