98

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وما بين الأغنياء والفقراء من تضاد كبير، لا يؤدي إلى ظهور طبقة متوسطة، بلغ من إضعاف فلاحي فلسطين ما أنبأ إشعياء معه بانحلال الشعب وما دعا النبي عاموس معه الأمة إلى الثورة ضد القادة كزعيم اشتراكي. ولم يعتم هذا الانحلال الذي كان يسهل تبينه أن تحقق، وذلك أن الآشوريين، الذين كانوا قد أضنوا فلسطين منذ قرون، والذين ما انفكوا منذ سنة 800 قبل الميلاد يتكلمون عن بني إسرائيل كملزمين بدفع جزية إليهم، أسروا رؤساء السامرة ومديريات أخرى ثم خواصها، وهم حين وزعوا أسرى بني إسرائيل بين الساخطين من شعبهم الخاص أثبتوا نبوغهم السياسي، وهكذا كانت خاتمة بني إسرائيل الذين كانوا عشرة أسباط، واليهودية وحدها، مع عاصمتها أورشليم، هي التي ظلت باقية. ثم أتى نبوخذ نصر ودخل هيكل داود وخرب الصحن الذهبي وحرق البناء وأخذ جميع رجال اليهودية ونساءها أسارى، وقد وقعت هذه الحوادث حوالي سنة 600 قبل الميلاد؛ أي قبل الإمبراطور تيطس والفتح الروماني بستة قرون.

وكان لليهود أعظم فائدة من إسارة بابل هذه كما كانت تدعى، وذلك أن ذكرى الوطن الأصلي كانت قد ضعفت في نفوس الأسرى كما ضعفت في نفوس الأمريكيين المعاصرين، وأن اليهود كانوا من الحظ ما حررهم معه فاتح بابل كورش، بعد خمسين سنة، فعادوا إلى بلدهم محيين في نفوسهم رغائب الماضي وذكرياته، وأن اليهود قد اضطروا في الأسر إلى تعاطي التجارة ما حرم عليهم أن يكونوا جنودا أو مزارعين كما وقع لهم في أوروبة بعد زمن، فاتفقت لهم بذلك معرفة تجارية عالية في بابل، ووجد اليهود البحر المحيط مغلقا دونهم منذ عودتهم وقبل أن يقهرهم الفرس والأغارقة، وكان الأغارقة قد استولوا على مرافئهم في مصاب النيل؛ فلذلك وبما أن المصريين والرومان الأولين كانوا محتاجين إلى تجار فقد هاجر كثير من اليهود قبل أن يكرهوا على الهجرة بعدة قرون.

وإذا نظر إلى الأمر من الناحية الروحية علم ما كان من فائدة للثقافة البابلية، فقد انتحل الكهنة، والسلطة المركزية في المنفى قبضتهم، أقاصيص بابل، كقصص التكوين والجنة والخطيئة الأصلية وبرج بابل والطوفان، وحرمة السبت الذي لم يكن ليراعى من قبل كما يلوح.

وعلى العكس كانت صلة هذا الشعب الغامضة بالرب، والتي تميزه من غيره، والتي ذاع صيته بسببها في العالم بأسره، موجودة قبل نفيه، وفي أيامنا يرد المؤرخون موسى، الذي عد رجلا أسطوريا زمنا طويلا، إلى دور أقدم من النفي ألف سنة. ويفترض أن موسى كان أول من أنبأ بإله واحد وأن يسوع أول من نادى بحب القريب، ولا يقوم واحد من هذه الافتراضات على أساس تاريخي حقيقي.

وارجع البصر إلى زمن الدولة القديمة تجد كهنة مصر يقولون بنظرية الرب الواحد وإن كان ذلك في مذهبهم الخفي، حتى إن أمنوفيس الرابع حمل الكهان على الجهر أمام الشعب بأن الإله الشمس هو الرب الوحيد، ونرى أن موسى عرف هذا المذهب في مصر ولو عاش قبل أمنوفيس مع الشك في هذا. وكان توحيد البابليين في ذلك الدور قد انتشر في فلسطين مع اللغة البابلية، فكان الإله القمر مردوخ يعبد كإله واحد، ثم إن يهوه لم يعد إله العبريين الوحيد المسلم به في قرون كثيرة، ولم يظل بعل وعشتارتا، اللذان كانت أعيادهما تخلط بأعياد الرب الواحد في كنعان، بلا منافسين كما تثبت ذلك طقوس الرقص حول العجل الذهبي، وكما تدل عليه الحجارة المقدسة والكهوف التي تقيم بها الآلهة والترافيم؛ أي الأصنام التي سرقها يعقوب من صهره، ولم تحرق الآلهة الأجنبية إلا حوالي سنة 600 قبل الميلاد، أي في عهد يوشيا، ولم يناد الكهنة بالإله الواحد إلا بعد العود من الإسارة، وذلك لما بين دين العبريين ودين جميع جيرانهم وأعدائهم من تباين.

ولم يكن التوحيد لدى العبريين ثمرة تحليل فلسفي كما عند أفلاطون، بل هو نتيجة تركيب بعد استبعاد كل إله غير الإله الواحد، وكان لهذا الإله الواحد أصول دنيوية ووطنية أكثر منها تصوفية. وكان إله العبريين في الغالب، إلها عسكريا وإلها قوميا معا؛ أي رمزا لقبائل اتحدت للقتال، وكان سيف يهوه هو الذي يسوق داود واليهود إلى المعركة.

وقد أظلمت فكرة الإله الواحد العظيمة بالمشاعر القومية التي لم يخل موسى منها. ولما عاد اليهود من بابل فرض عليهم واجب إعادة بناء هيكل يهوه في أورشليم دون سواها عن وجد، وقد بلغ هذا الشعور من الرسوخ في روح القوم ما وطد الكهنة معه يهوه في هذا المكان مخبرين إسرائيل بأنه الشعب المختار لإعلان إنجيله، وقد قال إشعياء صارخا: «وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته نسل إبراهيم.»

ومن يعان الضغط يبالغ في تقدير نفسه، ومن ذلك أن اليهود عنت لهم فكرة كونهم شعب الرب المختار أيام كانوا تحت النير الأجنبي، وكان مثل هذا الزعم، الذي رأوا به حيازتهم وحدهم للحقيقة في عالم القرون القديمة، يوغر صدور الأمم المجاورة التي كانت تعبد آلهة أخرى، والتي كانت قوية فترى الوضع المحال الذي يفرض به الشعب اليهودي الصغير إلهه الواحد على الشعوب الأخرى، وهذا هو مصدر اللاسامية التي ظلت باقية من خلال التاريخ حتى أيامنا.

ومع ذلك كان هذا المعتقد، الذي يحوزه الشعب اليهودي في رسالته، غير صادر عن غطرسة أو عن اضطراب باطني، فقد جعل الكهان، الراغبون في التوفيق بين الحكمة العامة الثقافية الواسعة النطاق ومشاعر شعب صغير من الرعاة والتجار، من يهوه إلها واحدا ليفسروا لبني إسرائيل أن ما أصيبوا به من أسر هو نتيجة غضب إلهي، وكان الخلاص من هذه الخطايا يستلزم مسيحا، يستلزم رجلا مرسلا من الله، يستلزم ملكا معدا ليقيم مملكة في الأرض.

وما في الكتب المقدسة، التي ذاع بها صيت اليهود قبل أفلاطون بقرن، من لهجة نبوية أمر محير. وكان الأغارقة يشعرون بأن هذا الشعب الغريب المقيم بشاطئ بعيد من شواطئ البحر المتوسط يضع قوانين، كما أنهم؛ أي الأغارقة، يتمثلون أفكارا أو يؤلفون صورا، وكان لمبدأ الرسالة المنتظرة وللهجة الأنبياء دوي جديد في عالم القرون القديمة. وبينما كان الأغارقة يقضون يومهم مع آلهتهم الكثيرة كان يوجد بين اليهود صفوة من الرجال لا يتصلون بالرب الواحد إلا في ساعات من الوجد. وقد علم الفلاسفة، مع اهتمام، ومن سياح، أن اليهود بدءوا يتخذون طرازا دينيا في الكلام والتفكير يقوم مقام المنطق اليوناني.

Unknown page