في معبد المال.
وأظهرت رومة للعالم في ذينك القرنين مثلا عن النشاط والتضحية مضافين إلى عطف عميق على خير الدولة. فكانت هذه المقومات الثلاث صالحة لرفع الشعب فوق مستوى الشعوب الأخرى وإن عطل من العبقرية. وكانت السماء الصاحية، التي تسطع فوق رومة فتأبى النجوم المذنبة والظاهرات الجوية، توحي إلى الأعقاب بالحيرة، لا بالإعجاب إلا نادرا، ولا بالعاطفة على ما يحتمل. والحق أن الرومان، مع جميع فضائلهم ومع جميع ما أتموه، لم يتركوا غير نموذج أبناء للوطن معينين، وغير أمثلة لا تمس ولا تلمس فتوجد في مبانيهم فقط، وكل ما يلقي شعاعا في العالم الروماني هو من أصل يوناني.
وأروع ظاهرة هو ما كانت تجهر به رومة القوية من عبادة علنية لأمها الروحية اليونان المغلوبة، فقد كتبت دساتير تحرير المدن الإغريقية في روح المأثورات الفخمة. وقد كان متفننو الرومان يشعرون بأنهم مقلدون طوعا لما لأثينة من خطوط كلاسية، وكان فلاسفة الرومان ومفكروهم يقلدون نماذجهم اليونانية في طراز حياتهم، حتى في معايبهم، حتى في الانتحار، وود شيشرون أن يعبر عن رمز مزج الحضارتين فاخترع كلمة «الإنسانية». وكان أقصى طموح في فرجيل هو أن يضع «أوذيسة» جديدة، ولكن يا للسخرية! فهو لم يكن دربا بالملاحة فضلا عن أنه ليس مثل أوميرس، فغدت قصته الكبرى عن البحر رواية برية، وقد قهرت رومة جميع خلفاء الإسكندر الأكبر من الملوك، مناوبة، في أثناء الحروب الآسيوية الكبرى في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد، جاعلة من ممالكهم ولايات رومانية، مؤسسة بذلك إمبراطورية في البحر المتوسط لم تساوها إمبراطورية أخرى، وقد وقف توسعها في عهد تراجان، ولم توجد هذه الإمبراطورية في أي حين وفق رغبة طاغية واحد في الفتح، ولم يكن الرومان محتاجين إلى ممتلكات متفرقة فيما وراء البحر. وكان الرومان يهاجمون في الغالب كما حدث مع هنيبال وأنطيوخس وفليب، وما كان من أمر معركة بيدنا الكبرى التي هزم فيها ملك مقدونية، برسه، فرض على الرومان، وكل ما كان الرومان يطلبونه هو وجود دول زبن؛ أي دول غير خاضعة، لكن غير مستقلة.
ولم يكن في ذلك الدور مستعمرات رومانية وحلفاء كما يوجد اليوم في الإمبراطورية البريطانية، وكانت إسبانية مستعمرة كما هي جزائر البرمود، وعلى العكس كانت أفريقية والإغريق دولتين ضعيفتين مع استقلال اسمي، كحال كندا في الوقت الحاضر.
والرومان مع ذلك، وعلى الرغم من كونهم سادة شواطئ البحر المتوسط، لم يكونوا سادة هذا البحر، وكان شيشرون يمتدح رومة لأنها غير واقعة على الساحل. وكان هوراس قد أصيب بدوار البحر مثل حامية أغسطس فوضع قصيدة لعن فيها مخترع الملاحة، وهنالك، على المسافات الكبيرة وعلى الأمواج الزرق أو الرمادية، لم يكن في القرن الثاني قبل الميلاد غير سلطة واحدة، غير القورسقيين الذين كان مأواهم في الغالب بأقريطش، بهذه الجزيرة التي كانت «غير ملك لأحد». وكان هؤلاء القراصين حلفاء تجاريين لتجار ملاحين يشرون منهم أحسن العبيد، وصار أحد العبيد ملكا في كليكية الواقعة بالقرب من الإسكندرونة الحاضرة، فاتفق مع القراصين كما يتفق طغاة اليوم مع الجواسيس. وكان الخوف من القراصين يربك التجارة في جميع البحر المتوسط فيبتسم حين يقرأ أن التجار كانوا يفضلون سير سفنهم في فصل الشتاء الذي يستريح فيه القراصين عادة.
وأخذت قرطاجة المغلوبة تزدهر مع ذلك ومع انتشار سلطان رومة، وظلت عامل تهديد لرومة، وكان الرجل الذي يبغض قرطاجة أكثر من أن يخشاها هو كاتون الذي هو روماني أكثر من الرومان إن لم يكن أعظمهم.
وكان مثل الرومان الأعلى يتقمص هذا الرجل السليم العضل الضامر المدبوغ الجلد والكثير الجروح والأزرق العينين والثاقب البصر مع فتور والأشقر الشعر والمعدني الصوت. والحق أن هذا الرجل كان لا يبحث عن الملاذ ولا عن الثراء، بل كان واقفا نفسه على الأسرة والأمة. والحق أن هذا الرجل كان يذكر فضائله الخاصة أكثر من أن ينشد السلطان، وكان يستشهد بفيثاغورس الذي يوصي بالاعتدال أكثر مما بالاستمتاع، وكان مثاليا في إدارة ملكه فلا يتناول غير الحساء والذرة مع خدمه، ولا ينام على فراش وثير، وكان يقوم بأعماله لتكون مثالا للآخرين أكثر من أن تكون مثالا للآلهة على العموم، وكان يحب أن يكون قدوة في البساطة فيتهم الآخرين فيما يلقيه من خطب مثالية، أو يعلن فضائله الخاصة في أحاديث لاذعة.
وكان الحنبلي
130
الأول في التاريخ كاتون لا يبدي لأبناء وطنه صورة عن الغنى أو العرفان أو الحكمة، وإنما كان يريهم فضيلته، وهو مع بساطته لم يحب أن يعيش فيلسوفا معتزلا كذيوجانس مثلا.
Unknown page