وكانت قوة رومة الفتاة تلقي أشعتها نحو الشمال فضلا عن الغرب والشرق. ورأى الرومان أن يدافعوا عن أنفسهم من تلك الناحية تجاه هجمات الغوليين فأبرموا معاهدة مع القرطاجيين مقتسمين وإياهم إسبانية ومناجم فضتها مثيرين بذلك حربا أخرى ستؤدي إلى إخراج وجه خالد من تاريخ البحر المتوسط.
والأسر الكبيرة التي يزيد الأبناء والحفدة فيها تراث آبائهم الفني أقل من الأسر التي يبدد الأبناء فيها تراث الآباء، ويتألف من تنضد تراث الجيل الفني فوق تراث جيل آخر منظر عجيب بين النحاتين والموسيقيين لا يمكن تبديده، وعلى العكس يبدد سريعا تراث الآباء حيث يكون السلطان والمال في الأسر المالكة أو أسر التجار الكبرى، ومثل هذه الأسر كثير في القرون القديمة، ولكن على قلة بين الملوك ومع عدم وجود بين «العصاميين» ...
ويشغل هنيبال وهزدروبال وهميلكار مكانا عاليا في تاريخ البشر مع أن أبناء الأسرة الآخرين لا يمتازون أبدا، ويوجد حول رءوس هؤلاء الأشبال، كما كان أبوهم يدعوهم، إكليل مجد كإكليل الإسكندر، ولكنه أكثر فجعا، وقد كانوا أبطال مأساة بارزين فرفع شأنهم بحبوط خطتهم العظيمة. ومن الواضح أن هميلكار الذي هو زعيم الطبقة الوسطى وقائدها في قرطاجة هو واضع الخطة الحربية ضد رومة، ثم نقلها إلى ابنه الذي نفذها، ولا ريب في أن هميلكار كان يشعر بموته قبل الأوان، وذلك لطلبه من ابنه هنيبال البالغ من العمر تسع سنين أن يقسم على تنفيذ خططه فيما بعد. ويدرك هميلكار ما في التوسع الروماني من أخطار على قرطاجة، وذلك بعيد حروب قاسية ناجحة اضطر القرطاجيون إلى شنها ضد قبائل ليبية ومراكش العاصية. وقد قاتل هذا القائد القرطاجي الرومان في البحر وفي عشرات الأيام، وذلك بين جزيرة وجزيرة وعلى الشواطئ وفي المرافئ، ومع ذلك فقد تمثل خطة تهدف على مقياس واسع إلى الهجوم برا على أحدث دولة بحرية من قبل أقدم دولة بحرية، وقد قضى أعواما في إسبانية لوضع أسس تلك الخطة. ولما قتل في إحدى المعارك آلت قيادة جيشه إلى ابنه هنيبال الذي كان في الخامسة والعشرين من سنيه، وقبض هنيبال على زمام القيادة بعد انتصارات الإسكندر الأولى بمائة سنة، فكان يمكنه أن يشبه نفسه به عن فتاء، وهل كان جميلا كهذا العاهل الأكبر وقد ورث مثله سلطانا وإن لم يرث عرشا؟ تتعذر معرفة ذلك ؛ وذلك لأن التمثال الموجود بنابل والذي يحمل اسمه لا يشابهه في الحقيقة، وهو قد ربي جنديا كالإسكندر. وكان نصف الهمجي هذا خفيف الجسم فارسا مسايفا عنيفا فنال تربية يونانية كالإسكندر، ولا سيما من قبل معلم إسبارطي، وإذا لاح أن هنيبال قد فاق جميع جبابرة اليونان بمكره فقد وصف بأنه أكثر إنسانية من خصومه الرومان على الأقل، ويظهر أنه أبطل القرابين البشرية.
ولا ريب في أنه كان قد تعلم من معلمه الإسبارطي فن قيادة الرجال الذي امتاز به، وقد اقتبس عن أبيه علم الأسلحة والتعبئة، وما كان ليجد معلما خيرا منهما. وكان يخامر الأب والابن شعور تاريخي بأن صراعا يقع بين الأمتين حتى الموت، وبأنهما اختيرا للسير بهذا الصراع حتى النصر. وكان يخالج كلا منهما مشاعر شرف وانتقام؛ وذلك لأن رومة كانت قد جردت قرطاجة من سلطانها في أفريقية واغتصبت منها جزيرة سردينية بالتهديد.
ولم يكن ذلك الذي تمثل له، حوالي سنة 218، أن يستولي على إيطالية بأن يجوب إسبانية والغول فيجاوز جبال الألب والأبنين أقل إقداما من الإسكندر في القفقاس.
وكانت حيرة إيطالية عظيمة، ومما زادها حيرة عدم امتلاك الحلف الإيطالي لسفوح الألب بعد، وكون هذه السفوح ملكا لقبائل سلتية. ويظهر أن هنيبال قد مر من شعب سان برنار الذي سار عليه نابليون بعد ألفي سنة، غير أن الثلج قد ديس بفيول كانت أقل إيلافا للشتاء من شباه الإسبان المرتزقين الذين كانوا يعرفون قر جبال نيفاده على الأقل.
وقد نقشت في ذاكرة الرجال ذكرى هذه الفيول التي نقلت على أطواف فوق نهر الرون وجابت جبال الألب فصورت على طبق قديم مع وجود أبراج عليها يقوم بالرقابة منها رجلان مسلحان كما لو كانت من دباباتنا. وقد تكلم بحماسة تيت ليف وغيره من مؤرخي الأعداء عن تلك الرحلة الكثيرة الخطر على ذلك الإفريقي المقدام، وما هو عدد ما هلك من هذه الحيوانات الهائلة التي أتي بها من قارة أجنبية، وذلك بفعل الجو وبما كان من سقوط في المسايل، وذلك حين المرور من دروب لم يتعودها غير البغال. وقد جلب هنيبال من الرون حتى جوار تورن نحو أربعين ألف رجل في ستة وعشرين يوما فهلك نصفهم في أثناء مقاتلة السكان، وقد استولى الرعب على السكان في بدء الأمر، ثم لم يلبثوا أن أبدوا عنادا ضاريا، ولا يقاس هذا الاجتياز الذي تعد حملة بونابارت بجانبه توقفا إلا بمجاوزة بوليفار لجبال الأند في سنة 1815.
وتدلنا الصورة الثانية التي انتهت إلينا من تلك الحرب على أرشميدس بسرقوسة وهو يبيد من الشاطئ سفن الرومان بمراياه المحرقة ومجانقه، وهو يضرع إلى الجندي الروماني الذي يريد قتله أن يمنحه بضع دقائق لحل مسألة رياضية. وتدلنا الصورة الثالثة على كلاب اخترعه هنيبال؛ أي على نظام جديد للقتال استطاع به أن يحصر ويبيد، في كان جيشا رومانيا أقوى من جيشه مرتين.
وما أغنى هذه الحرب، التي يتطلب وصفها مجلدا خاصا، بالمناظر الروائية! وأروع الجميع هو الصراع في سبيل سيادة العالم وتجلي هذا الصراع في مبارزة بين غلامين. والواقع أن سبيون الروماني كان في الثامنة عشرة من سنيه عندما شاهد انتصار عدوه الأكبر هنيبال في تيسن للمرة الأولى. وكان المعلم لسبيون أيضا أبوه الذي قتل في معركة بإسبانية فيحاول الانتقام له، ويدل على النساء مع ملامح روائية وخصل طويلة فيبدو شابا من الطراز الأول ويعامل على هذا الوجه، وكان يصدر عنه شعاع كشعاع هنيبال فيتمادحان كما لو كانا من الشعراء الجوالين. وتطبع هذه الحرب بوقائع كثيرة أدت إلى تخريب إيطالية في ست عشرة سنة، ويرى هنيبال المنصور أنه وقف أمام رومة في الساعة الأخيرة، ويعاق في صولته ويهجره إخوانه الأغبياء نهائيا ويعود إلى وطنه تعبا شائبا عن غم فينصح قومه بالصلح.
ويكره على مغادرة وطنه خائبا مبعدا.
Unknown page