ومن دواعي الحيرة أن كان فردريك ابنا للجنوب بمزاجه وغريزته وذوقه وتربيته من كل وجه، وقد شعر بشقوته حينما اضطر إلى العيش في فورمس أو في فرنكفورت، وما كان ليسر بسوى بلرم وأبولي، وهو لم يذهب إلى ألمانية مرة ثانية إلا ليقيم بها سنتين، ولو كان شهوانيا أو فيلسوفا فقط لانزوى في بلد أمه ليتمتع بالحياة.
ولكن فردريك كان فيلسوفا بمقدار الكفاية عارفا بفن الحياة، ولكن فردريك كان لديه مقياس كاف لجميع ما صنع، وذلك لكيلا يقنع بعيش نمطي في الجنوب، وهل دفع عن عزة وارث لإمبراطورية، أو عن طموح فاتح؟ وهل أدار رحى الحروب وكافح ونافح حتى آخر عمره عن رغبة في تحدي التاريخ؟ كان فردريك الثاني يختلف بسجيته عن بركلس ومارك أوريل وجوستينيان اختلافا تاما، وهو كان مفكرا باحثا متفننا أيضا، ولم يكن هذا في أوقات فراغه وعن غير قصد فقط، بل كان ذلك يتجلى في كل يوم وفي كل عمل من أعماله، وقد كان من ذوي النفوس العالية الذين ينعمون النظر في أفعالهم فيعربون بالأعمال عن تأملاتهم، والحق أنه سبق عصر النهضة بقرنين فكان أول رجالها، والحق أنه ظهر نظير مصيره.
وكان التسامح والمجون يمازجان فردريك فيكون له بذلك توازن نفسي يصونه من الجنون في ساعات اليأس والبؤس، وهو مدين بهدوئه الباطني لجبريته المقتبسة من الإسلام والتي تختلط فيه بروح الفكاهة، وهو، وإن كان غريبا عن الدين النصراني تماما، كان يبدي احترامه للكنيسة كإمبراطور نصراني ما بدت الكنيسة نصيرة له، وتحرمه الكنيسة فيجهر بعدم اكتراثه لهذا التدبير، وأول ما صنعه هو أنه أرسل كتابا إلى جميع الأمراء رفض فيه مزاعم البابا، وذلك مع تهكم نفسي خليق بفولتير، ثم ماذا؟ ذهب إلى القدس مع جيش صغير، ولقي السلطان فيها، واتفق معه في بضع دقائق، وذلك كما يصنع اثنان من كبار رجال الأعمال بعد بحث طويل يقوم به وكلاؤهما، وقد قام الاتفاق على أساس من التسامح المتبادل يمنح به كل من الدينين ما يدعيه من الحقوق، ثم أمر بإعداد تاج في كنيسة القبر المقدس حيث ذهب مع بضعة ضباط فقط ووضع التاج على رأسه بيده، وهكذا سار الإمبراطور، الذي أصيب بحرم البابا الهائل، من غير أن يساعده أسقف، ولم يتفق لصليبي قط مثل ذلك النصر أمام المسلمين المسالمين.
وكان فردريك آنئذ، في شرخ شبابه، وكان يتكلم سبع لغات مفضلا اللغة العربية محيرا السلطان وبلاطه، ويأمر الشرقي الذي اجتمع بنصراني متسامح لمرة واحدة بألا يؤذن المسلمون من فوق المآذن ما أقام الإمبراطور بالقدس، ولما سمع الإمبراطور، ذات صباح، شيخا جاهلا ذلك الأمر يجهر بالصيغة المثيرة المأثورة القائلة إن الله لا ولد له أتاه رسل من السلطان ليعتذروا إليه.
واسمع جواب فردريك: «دعوه وشأنه، وعليكم أن تروا ماذا يسمح به للمسلمين في بلدي، ولولا خوفي من ضياع سمعتي لدى الفرنج لعرضت على السلطان شروطا ألين من تلك.»
ولما ذاع في العالم صيت هذه الحرب الصليبية السلمية التي توجت بالنجاح كسب الإمبراطور ألوف القلوب، على حين خسر البابا مثل هذه الألوف من الأفئدة وقتما كان يحمل على احتلال صقلية وفق مصلحته، ويعود فردريك على جناح السرعة مع بعض أصحابه، وينزل مباغتا إلى برنديزي، وكان قد بلغ من عظم النفوذ ما أعاد البابا معه جميع فتوحه إليه وألغى حرمه وعد من السعادة استقبال الإمبراطور إياه في مأدبة رائعة.
وكان فردريك إمبراطورا صميميا، وداوم فردريك على عمله الخصيب في سني كهولته، ونهض بدولته في الجنوب على قواعد القوة والعدل حاكما مطلقا منطويا على إنسانية، وكانت ألمانية التي يديرها بواسطة ابنه في ذلك الحين غارقة في ضباب غبر ممزقة بتنازع أمرائها الكثيرين، وجعل هذا العاهل الجائل من صقلية، التي كانت تبدأ رسميا في شمال رومة الشرقي والتي كانت تمتد في الواقع حتى جبال الألب، مقره نهائيا مؤسسا أول دولة عصرية حقا.
وينم اختلاط دمه على خصبه مجددا، وتستلزم ثنائية سجيته وجود مستشارين مختلفين، ويجدهما لسنين كثيرة، يجدهما من ناحية في شخص فارس المنظمة التوتونية: هرمن فون سالزا، ويجدهما من ناحية أخرى في شخص حامل الختم في أبولي: بيترو ديفينيا، وكان أحد هذين الرجلين أسدا، وكان الآخر ثعبانا، وكان عليه أن يعاني شدة ما بينهما من تضاد في الغالب مقاوما أحيانا أحدهما الكثير التدقيق ومعاندا أحيانا تلقينات الآخر، وكان يعرف أن يصل، بما فطر عليه من نشاط، إلى آفاق كلاسية
12
في الحقيقة، فيستطيع بذلك أن ينجز من الأعمال ما اشتهر بمثله رجال النهضة بعد زمن، وبالنظام والتنظيم يتجلى تراثه الجرماني في حكومته، وبالنشاط الذهني والخيال يتجلى تراثه الجنوبي في حكومته.
Unknown page