146

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وإذا نظرت إلى القرون الثلاثة؛ أي إلى ما بعد فتح القدس من قبل عمر سنة 637، وجدت سادة الأرض المقدسة العرب قد ظهروا أكثر حلما وتسامحا من معظم الفاتحين، ومن ذلك أن سلم الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان مفاتيح القدس ومنحه لقب حاميها كما منحه حق امتلاك القبر المقدس، وكان ملوك الجرمان والإنكليز على صلات ودية بالعرب فيقيمون مباني ويقومون بأعمال بر وإحسان.

غير أن الوضع تغير حينما احتل الترك السلجوقيون تلك المدينة سنة 1071، ومن الطبيعي أن يكون قد وقع ارتباك كثير عندما أعادت دول نصرانية فتح أقسام من العالم الإسلامي في صقلية وإسبانية ثم خسرتها ثم استردتها مجددا حتى لقب نورمان صقلية ب «الصليبيين قبل الحروب الصليبية»، ويستولي الترك نهائيا على آسية الصغرى تقريبا، ويشعر كل من النصارى والمسلمين بأنهم مهددون مقابلة مع أن كلا منهما كان يهدد الآخر، فتنشأ حال نفسية تؤدي إلى اشتعال حرب في البحر المتوسط كان أقطاب السياسة قد اجتنبوها عن تسامح وحكمة عدة قرون.

وكانت تضاف إلى الوجد الديني والزهو العرقي والرغبة في المجد جاذبية الشرق المعروف قليلا والملازم لخيال الغرب، وكان يعبر عن هذه الجاذبية في الأقاصيص والروايات الكثيرة التي تجعل أمر الشرق ماثلا في الأذهان، وهذا إلى ما كان من مغريات الكسب والصيت والأمل في الثواب من الرب، وهذا إلى ما كان من استيلاء الطاعون بشدة على ما بين الفلاندر وبوهيمية وإكراهه ألوف الناس على مغادرة بلادهم، وقد حلم هؤلاء الذين لا مأوى لهم بسورية على أنها جنة تثمر تفاحا ذهبيا تحت سماء دائمة الزرقة، وهنالك أناس آخرون كان يساورهم أمل الفرار من الاضطهاد أو من النذور الدينية أو من نسائهم، وهكذا كان كل ما في الإنسان من ضعف وفضائل يدفع الألوف من الآدميين إلى ترك وطنهم الأمين ووسائل عيشهم وإلى ترك أسرهم متوجهين إلى ما هو مجهول وراء البحر المتوسط.

وسمعت شكاوى منذ البداءة، حتى من أفواه الأساقفة المقيمين ببلاد الرين، حول ما عد «لصوص» الصليبيين مسئولين عنه من إهانة اليهود واضطهادهم.

ولاح للبابا أنه تمثل مبدأ عظيما عندما قذف كلمة «الحرب الصليبية» في العالم، ومع أن البابا لم يقصد أن ينتقل من رومة إلى القدس فإنه كان يود أن يسيطر على القدس من رومة. ومن شأن ذلك المبدأ أن يجعل البابا صاحب سلطة فوق الدول وأن يدعو الرجال الأقوياء الشجعاء في جميع البلاد من فوق مولاهم إلى إخضاع بطاركة الشرق لمقامه الرفيع، وأن يشري شكر كثير من الأمراء والإقطاعيين بأن يسلك بأبنائهم الفتيان سبيل المجد والشرف والثراء.

ويا لحماسة الصيارفة الذين يمدون هذا المشروع بالمال! ويا لضخامة ما تتلقاه مدن إيطالية من طلبات وسائل النقل وطلبات الإصدار والإدخال! وبينما كان الغرب يهتز بصراخ المحرضين اللابسين ثياب الكهنوت والقائلين مع التكرار إنه لا بد من حماية القبر المقدس. وبينما كانت الاجتماعات العامة تختم بالصلوات والتراتيل، كان يطوف بين الحضور البالغي الوجد تجار حاملون أقلاما بأيديهم جامعون لأعمدة من الأرقام، وبينما كانت الأحوال تضطرب اضطرابا لم يسبق له نظير، كان التجار في رداه مرفأ جنوة ذوات القباب الدكن وفي أروقة البندقية الأكثر نورا ومرحا يعقدون اجتماعات لا حد لها للبحث في الوسائل التي ينالون بها أعظم ما يمكن من المكاسب، أجل، كان بعض ألوف الصليبيين يبحثون عن نجاة روحهم، غير أن معظم الصليبيين لم ينشد سوى الثراء، ومن المحتمل أن كانت تلك أول حرب في التاريخ لم تقم بها جيوش، بل قامت بها شعوب بأسرها، وقد كان بروز الجمهور المغفل عامل التاريخ الحاسم في ذلك الدور أكثر من أن تكونه المعارك الصرفة.

وبالشكل والدوام والنجاح اختلفت الحروب الصليبية الأربع أو الخمس التي ملأت القرن الثاني عشر والتي لا محل لتحليلها هنا، ويكفي لتمثلها أن تفحص تلك البسط الشرقية التي أتى الصليبي بها إلى بلده والتي وصف بها عالم الشرق الأبلق لأسرته، وكانت ترى على تلك البسط صور حيوانات ونباتات عجيبة وصور فرسان غنية بالزخارف، وصور سيدات وسفن وخيل وجمال مع رسوم خيالية، ولو لم يجئ الصليبيون بشيء غير أساطير الشرق لكفى هذا وحده للاعتداد به، والواقع أن كل ما كسبته النصرانية هو تلك الكنوز من الفن والشعر والأغاني وأساطير المغامرين، فشوكة الإسلام لم تكسر قط.

وكان يوجد لصوص أغنياء ورهبان متعصبون، وكونتات طالبون إمارة، ونغلاء ملوك أتقياء لا يعرفون هل يباهون بأصلهم أو لا يباهون، وخطباء جائلون موهوبون ووزراء بخلاء، وأساقفة أخذوا عن العرب نظام الحريم، ومرابون أغرقوا سفنا نيلا لمبلغ التأمين، ومقامرون وطلاب، وجوابون مغنون وكاتبو أشعار بلغة لاتينية رديئة، وشعراء دوارون منشدون تحت نوافذ نساء الترك المحجبات أو ساخرون منهن إضحاكا للناس، ومخترعو سفن جديدة، وتجار ذخائر زائفة. وكان يوجد من أغنياء جنوة من يرسلون أبناءهم حاملين أسلحة ذهبية ليقاتلوا، في كتائب الأريستوقراطيين، فريق الكافرين الذين يبيعونهم خشبا ومعادن في الوقت نفسه كما لا يزال يصنع كبار المستصنعين في أوروبة.

وينقضي دور الحماسة الأول فيشاهد بين الرؤساء المتحالفين مثل ما يشاهد في أيامنا من سوء الظن، ويكفي أن تقرأ قصة الفزع الأكبر الذي استحوذ على إمبراطور بزنطة ألكسيس، وعلى ابنته، حينما دخل الصليبيون المرفأ نهائيا، فقد آذوا مزاج أهل بزنطة من شعب وأهل بلاط، وانتهكوا حرمة تقاليدهم وعاداتهم. وإذا نظر إلى الأمر من حيث هو مشروع استرداد فلسطين التي كان قد خسرها البزنطيون، وجد هؤلاء كارهين لهذا المشروع ما دام وليد خيال منافسهم، بابا رومة، وما كان قواد الجيوش المتحالفة المتباغضون ليسيروا في آسية الصغرى مع كتائبهم إلا بعد مفاوضات شاقة إلى الغاية كادت تتحول إلى اصطراع. وكان الإمبراطور قد طلب من الصليبيين أن يتلقوا الأرضين التي تؤخذ من الترك بلادا تابعة لبزنطة، فرفض أحد الأمراء أن يحلف اليمين، وكذب أمير ثان في يمينه، وباشر أمير ثالث الأمر طليقا غير ملتفت إلى ذلك.

وكانت تدوي معجزات تورائية في تلك الأماكن الكثيرة، فينتفع الرؤساء بكل مصدر للخرافة والإيحاء إثارة لحماسة الجنود، وقد قاومت أنطاكية حصار عدة أشهر، وقد أبصر الصليبيون أنهم مهددون من قبل جيش تركي جاء لمساعدة المحصورين، وهنالك أنقذ فلاح بروفنسي ذلك الوضع الموجب لليأس، وذلك بأن رفع رمحا قائلا إن يسوع كان قد طعن به على الصليب، وتحرك هذه الظاهرة المسيحيين فيكسبون المعركة، ومع ذلك فقد تبسم نائب البابا من هذه الأسطورة مرتابا وكتب يشك في موضوع ذلك الرمح.

Unknown page