ويستوي الحارس على مقعده مرفها، ويضيء المنضدة مصباحه الصغير فيستطيع بذلك أن يرقب كل شيء، وماذا يصنع الآن؟ يقرأ، وهذا ما يقضي به حراس المناور لياليهم في جميع العالم، ومن النادر أن يقرءوا روايات، وهم يطالعون تاريخا في بعض الأحيان، وكلهم يأتون من البحر، وكانوا كلهم ملاحين، ويملأ البحر قراءاتهم كما يملأ خيالاتهم، ولو عدلوا عن ركوب البحر، وهذا الفرنسي، الذي كان قد طاف في جميع البحار، هو من مواليد هذا الساحل الجنوبي، وكان أجداده من البروفنسيين.
واليوم يتناول الكتاب الذي تركه له رفيقه، وهو يقلبه غير مرة عن عدم دراية كمن يبدو فاحصا ثخنه وثقله مع وجود البرميل بين الصور، ثم يفتحه من صفحة الحارس، ويتكئ على الكرسي ويبدأ بالمطالعة.
وفي الكتاب خبر عن مصاير البحر الذي يرقبه في مكان معين، ومن عل، مناره الدوار، وهو، وإن كان ينقل بالكتاب إلى ماض بعيد، لا يلبث أن يعرف كون البحث خاصا ببحره؛ أي بالبحر المتوسط.
اكتشاف البحر المحيط
1
ينظر إلى الغرب رجل قوي لحياني جالس على حجر فوق شاطئ البحر واضع مرفقيه على ركبتيه مسند ذقنه بجمع كفه، موترة جميع تقاطيع وجهه، وتذرف عيناه عبرات كبيرة رويدا رويدا، وتتدحرج على لحيته وتبلغ شفتيه، وهي من المرارة والملوحة ما للزبد الذي يتدفق نحوه، وهو يشعر بمثل تلك المرارة في فؤاده، وماذا أصاب هذا الرجل الحزين الجالس على ساحل البحر إذن؟ وأين نحن؟
على شاطئ جزيرة، على شاطئ مالطة على ما يحتمل، وفي الأسطورة تسمى أوجيجي، والرجل يدعى أوليس، وكان مرتبطا في البحر المتوسط ارتباطا وثيقا مدى حياته، وقد ولد في جزيرة وأبحر نحو جزر على سفينته المصنوعة من صنوبر وحمله البحر من جزيرة إلى جزيرة حتى تروادة، وهنالك أيضا لم يبتعدوا عن سفنهم، وتسكن الجزيرة حورية إلهية، وتمسك أوليس منذ عام في الجزيرة حيث زورقها الآن، وهي لا تستطيع أن تشبع من قوة هذا الآدمي ، وتعرض كالبسو حياة إله عليه، ومع ذلك يعرضه أوميرس قاعدا على رملة باكيا، وهو المغامر الأكبر، وهو أعظم الماكرين، وهو أعظم المقاديم، هو يحلم بجزيرة أخرى أوسع من هذه مع نبات مماثل وحيوان مشابه لما فيها! وفي إيتاك أبصر النور، وله فيها منزله وزوجه وولده، وبوطنه يحلم أوليس باكيا.
وتعزم حاميته الكبرى، أتينه على إنقاذه، ولما اطلعت كالبسو على حكم الآلهة شكت قسوتهم إلى هرمس متحسرة.
ولكن ها هي ذي تخرج من كهفها وتنزل باسمة إلى الرملة حيث يقضي حبيبها أيام وحشة، وهي تخبره بأنها ستعينه على إنشاء سفينة يتمكن بها من العود إلى بلده، ويخامره ريب في بدء الأمر، ثم يملأ أملا فيتبع الحورية، ويسار به إلى ساحل محاط بأشجار صنوبر تناطح السحاب، وهي تدله على شجر جف بفعل السن فيصلح لصنع ألواح متينة منه، ويسقط أوليس عشرين ساقا، ويتخذ أوليس من التدابير ما يجزئها معه بالآلات النحاسية التي جلبتها الحورية إليه، ثم يضم بعض الألواح إلى بعض بدسر
1
Unknown page