124

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وإذ لم يكن لدى النصرانية الفتاة فن خاص بعد فقد انتحلت الفن اليوناني كانتحال أمريكة الفتاة للفن الأوروبي مؤخرا، ويرى في تلك الدولة النصرانية الجديدة قيام معابد جديدة تكريما لكاستور وبولكس. ولما صعد أعضاء السنات، للمرة الأولى، في السلم المؤدي إلى ردهة الاجتماع الجديدة وجدوا تمثال بلاس لندوس أمام الباب كتمثال زوس دودون وعمود أفاعي دلف في مكان آخر. وكان يرى في ميدان قسطنطين الواسع، في ميدان حامي النصارى هذا، هذا الإمبراطور على شكل أبولون، وذلك فوق عمود من الرخام السماقي، وما كان هذا الكيان الوثني سندا خفيا ولا حاميا خارجيا للكنيسة النصرانية الحديثة، ويبدو هذا الكيان قائما جانبا منفصلا عنها انفصالا يكاد يكون تاما.

وبدأ قسطنطين عهده بمرسوم تسامح، بعقد سياسي محض، أجل، إنه أمر بعد ذلك بأن ينقش على قوس نصره برومة أنه نال النصر بإلهام من الله، غير أن كلمة «الله» ظلت مبهمة في وثائق ذلك الزمن الرسمية. وقسطنطين هذا حافظ في حربه الأهلية الأولى على أعضاء السنات الوثنيين وعلى أريستوقراطي رومة دون النصارى، وقسطنطين هذا كان له بصر السياسي الحقيقي فيطلع على رغائب الجماهير وآمالها. وكانت النصرانية في عهد مولاه الخاص وسلفه: ديوكليسيان قد صارت ثابتة الأساس كثيرا نتيجة للاضطهادات، كما تغدو الآن وطيدة في ألمانية، ويدرك قسطنطين ضرورة منح هذه الجماعة كيانا قانونيا فيأمر بتصوير رموز نصرانية على تروسه وأعلامه مع عرض نفسه على صورة أبولون.

والواقع أن قسطنطين الذي عد أول إمبراطور نصراني كان غير صادق الإيمان كما تدل عليه أخلاقه وأخلاق مستشاريه، وقد أنجز نظام سلفيه الحكومي كطاغية مطلق، وقد عبد الفلاحين فحرم عليهم ترك أرضيهم لتناقص عدد العبيد، وقد جلس على العرش مثل الآلهة فوق الأساقفة في مجمع نيقية الذي قال بالثالوث الأقدس، فيا للغرابة في رئاسة الإمبراطور غير المعمد لهذا المجمع الروحاني الحكومي! وكان ذلك أول مجمع أوروبي ذي منزع أممي، وذلك كالمؤتمر الاشتراكي الأول الذي عقد بعد 1500 سنة.

واتخذ في هذا المجمع للمرة الأولى، كما في المجامع الثلاثة الأخرى التي عقبته في فواصل قصيرة، تلك اللهجة الاستبدادية التي انتحلها البابوات بعدئذ، وهو، بجلوسه على عرش من ذهب، وتوجيهه أمراء الكنيسة الأولين بدا إمبراطورا وبابا معا ممثلا لأول مرة ما يسمى «القيصرية البابوية»، وما كان أحد في ذلك العصر ليشك في أهمية اتحاد السلطة الروحية والسلطة الزمنية وما يؤدي إليه هذا الاتحاد من صراع. وقد استند مبدأ الحكومة الإلهية الأساسي، الذي عدت به الكنيسة في القرون الوسطى وارثة للإمبراطورية الرومانية، إلى ذلك الوضع الاستبدادي الذي ينطوي على حماية سلطان ولي أمر رفيع الشأن من قبل مذهب واسع الانتشار. ولما أبصر قسطنطين الأساقفة في نيقية، سنة 325، جالسين تحته متنازعين فيما بينهم وأدرك معنى كلامهم من حركاتهم ونبرات أصواتهم عد ذلك المجمع كمجلس سنات جديد يجب أن يجد فيه أصدقاء له.

وقد انتظر هذا الطاغية الكامل، الذي كان يداري زهوه بعادات وأزياء شرقية مع تقوية عاصمته بحصون جديدة، حتى الساعة الأخيرة ليركع أمام الصليب الذي اختاره شعارا لأعلامه، وقد مرض في بدء حملة ضد الفرس فأمر بتعميده على عجل، وقد جعل النصارى منه قديسا، وقد جعل الوثنيون منه إلها رومانيا.

ولقب قسطنطين ب «الأكبر»؛ لأنه اعترف بالرسالة النصرانية، والحق أن النصرانية مدينة له أكثر مما لأي رجل آخر منذ القديس بولس، ومع ذلك يجب أن يسأل: هل حقق هذا الإمبراطور مبدأ عظيما في الحقيقة أو ساعد الإكليروس النشيط على بلوغ السلطان؟ ومهما يكن من أمر فإن أسقف رومة فكر في ممارسة هذا السلطان بنفسه كإمبراطور، وما يبدو اليوم لنا غريبا كان ممكنا في القرن الرابع، فقد كان يمكن أسقفا جريئا أن يحمل لقب إمبراطور. وقد غدت «جمعية المؤمنين المكرمين الروحانية»، التي لم يلبث أوغستن أن وصفها مع الإصابة ب «مدينة الرب»، حلفا دوليا تعلوه الكنيسة. وكان يمكن الصراع، من أجل سيادة العالم، الذي سيهز الإنسانية مدة ألف سنة أن ينتهي بانتصار الكنيسة لولا انقسامها.

وقد زاد غزاة البرابرة هذه المسألة الجديدة تعقيدا، وقد جهل قسطنطين الخطر الجرماني مع أنه نبيها بصيرا على العموم. وقد كان أول من قبل في بلاطه ضباطا وموظفين من الجرمان ومنحهم مراكز مهمة، حتى إنه دعا قبائل جرمانية لتعبر نهر الرين وتجازي الغوليين، حتى إنه نظر بعين التسامح، ومع التشجيع، إلى الفرنج الذين يأتون من نهر الرين الأدنى، وإلى قبائل الألمان التي تتوجه من مجرى الرين الأعلى إلى الغرب والجنوب، وإلى الوندال الذين يستولون على هنغارية بعد عبور نهر الدانوب، وهذا إلى أن الموج المخرب الذي سار متدافعا إلى أوروبة مدة خمسة قرون مما كان يتعذر وقفه على الرغم من صاحب عزم؛ وهذا لأن ذلك التيار مما لا يقاوم.

ولم يتمالك خليفة قسطنطين أن أعاد النظر في سياسته تجاه النصارى، ولما قتل ابن قسطنطين فأمر بقتل نصف أسرته استطاع غلام أن يتفلت من الذبح ابنا للخامسة من سنيه، فرباه أسقف وخصي تطلعا إلى القسوسة، ولما مات قسطنطين وأخذ اثنان من أقربائه يحكمان معا كان الغلام المنزوي عازما على تعلم البيان في القسطنطينية ثم يعلمه فيلسوف يوناني حكمة الأفلاطونية الجديدة. وكان قد رأى في البلاط كثيرا من الكبائر النصرانية كما سمع حديثا عن الدم المسفوك بين آله الذين كانوا يزعمون أنهم نصارى؛ ولذلك صار ذا ارتياب حيال النصرانية مبديا تقبله لمعتقدات القرون القديمة التي تلقاها في منابعها كما تلقاها في أثينة بعد ذلك.

وإنه ليقضي حياة سعيدة ابنا للخامسة والعشرين؛ إذ ينتزعه من الدراسات الأفلاطونية إمبراطور معتزل، فيرسله إلى مقاتلة البرابرة مع أنه كان على النقيض من روح الجندي، ويصبح صهرا للإمبراطور ومساعدا له، ثم يعين قائدا عسكريا لجيش الرين، هذا النهر الذي عبره الألمان لغزو بلاد الغول ونهب كل شيء يجدونه في طريقهم وإحراقه.

وليس عن قليل أن كان الأمير رومانيا سليلا لأسرة جندي، فقد دلت حركاته العسكرية الأولى على عبقرية حقيقية فيه أسفرت عن نصر، وقد انكشف ضباب غاب البرابرة الابتدائية عن باريس وستراسبرغ للمرة الأولى. وقد كسب أولى معاركه الكبرى في ستراسبرغ، وقد جعل مقره في باريس كما يصنع ذلك جميع من يأتي بعده من القواد ورجال الثقافة تقريبا.

Unknown page