وقد أتم الشعائر الشرقية خلفه ديوكليسيان فجاب رومة في عربة نصر تجرها أربعة أفيال، وقد رفع إلى العرش بعد أن شغل منصب ضابط في الحرس الإمبراطوري، وكان منافسه في العرش محكوما عليه بالسجن مع الشغل سابقا فلقب نفسه في بولوني ب «أمير بحرية رومة»، ثم صار مدافعا عن شاطئ المانش ونادى بنفسه «إمبراطورا لبريطانية العظمى»، وما انفكت النقود تحمل صورته إمبراطورا سبع سنين إلى أن مات مقتولا. وإذا عدوت هذا الحادث أبصرت ديوكليسيان قد سيطر عشرين عاما من غير أن يلاقي ما يكدر صفوه، هو طاغية بالمعنى القديم، هو جدير بهذه الكلمة، هو قد ألغى دستور أغسطس شبه الجمهوري والبالغ من القدم ثلاثة قرون، هو قد اختار بنفسه إمبراطورا شريكا (أغسطس) فكان لكل من الإمبراطورين مساعد في الحكومة، هو قد دعا جميع هذه الزمرة بالأسرة الإلهية جاعلا جوبيتر وهركول وآلهة أخرى آباء لها، هو قد أبدع في الوقت نفسه إدارة مع العناية بتقسيمها إلى أربع مديريات، وهكذا جدد نظام التبني، أي نظاما كان قد أسفر عن الأباطرة الأربعة الذين هم أحسن من عرفت رومة.
وكان ديوكليسيان أول اشتراكي حكومي، وكان ابنا لعبد، وبما أنه كان طاغية في الوقت نفسه فإنه يذكرنا ببعض سادة العالم في الوقت الحاضر، وهو كهؤلاء قد حرم رعاياه نعمة الحرية ضامنا لهم في مقابل ذلك ، وبواسطة الدولة، سلامة السكن والطعام. وكان على الابن أن يداوم على عمل أبيه في المصالح الضرورية كالجيش والنقل والغذاء، وكان كل مالك أرض مسئولا عن ضرائب رجاله، وعادت الطبقة الوسطى والتربية الكهنوتية غير موجودتين. وكانت قائمة السلع المسعرة، وهي الأولى في التاريخ، ناظمة للأجور ولأثمان المنتجات، وكان هذا التسعير يشمل ما بين الذهب والصبغ الأرجواني حتى بيض الدجاج، وكان هذا التعسير يفرق بين لحم خنزير مرسيلية ولحم خنزير بلجيكة، وكان هذا التسعير يتدرج من أجور العمال المياومين حتى أتعاب المحامين كما يتدرج من أجور جزازي صوف الغنم حتى أجور كاسحي البلاليع، وكان يعاقب بالموت كل من يخالف تلك الحسابات؛ ولذا كانت الدولة الشرطية والدولة الإصلاحية مع العاصمة رومة أمرا كاملا منذ سنة 300.
ولا عجب إذا ما أخضع ديوكليسيان الأديان لنظام وثيق وإذا ما هدم كنائس وهدد مجالس عامة وصادر أملاك الكنائس، وقد داوم، فضلا عن ذلك، على إبعاده من الوظائف العامة كل من كانوا يقولون إنهم نصارى وعلى جعلهم خارج حماية القانون، كما هي حال اليهود في الساعة الراهنة، ويقدر جبن عدد من قتل من النصارى في ذلك الحين بألفين، مضيفا إلى ذلك قوله إن من قتل من النصارى بأيدي النصارى في القرن السادس عشر أكثر من أولئك بدرجات، ويذيع صيت بعض الشهداء منذ ذلك الزمن، ومن هؤلاء نصراني طعن في مراسيم الإمبراطور العامة وأبادها فشوي على نار قليلة فصار شهيد نيقوديمية المجهول، وعلى العكس أصدر نائب ملك وهو على فراش موته مرسوما سمح فيه «لهؤلاء البائسين بأن يمارسوا دينهم وبأن يجتمعوا على أن يحترموا القانون، ونأمل مع ذلك أن يجد النصارى في رحمتنا ما يحثهم على الدعاء إلى ربهم أن يمن بالسلامة علينا وعليهم وعلى الدولة.»
ولم يكن ديوكليسيان سفاكا فاسقا خليعا مبذرا، بل كان عاهلا فاضلا عادلا، وذلك إلى أنه قام بعمل نادر في التاريخ حين تنزل مختارا عن السلطان كما صنع بعده شارل الخامس وإدوارد الثامن مع الفارق القائل إن هذين الأخيرين تنزلا عن السلطة نتيجة ضغط قوى معادية. والواقع أن ديوكليسيان كان ذا مبدأ جدي حول السلطة ضمن المعنى الذي نظر إليها به مارك أوريل فتنزل عنها ابنا للخامسة والخمسين من سنيه ملزما نائبه الضعيف بأن يسير على غراره فسحا في المجال لمساعدي الإمبراطور حتى يقوما بأمور الحكومة، ولا ترى بين الأربعة صلة قرابة، شأن الممول الفرنسي الذي يشري رحا مع كرم ليصطاد بالصنارة وليلعب بالكرات مع الجيران وقت المساء. وقد بنى ابن العبد ديوكليسيان في بلده الدلماسي قصرا يقضي فيه حياة الخلي كأمير إقطاعي، واليوم ترى نصف مدينة إسبالاتو تغطي أنقاض قصر ديوكليسيان.
ولم يطق زميله تلك الحياة، فلم يلبث أن أخذ يناضل في سبيل العرش، وهو لم يجد سلما، فقد تنافر هو وابنه وقام بكفاح جديد وعانى هزائم ليموت موتا غامضا في نهاية الأمر. أجل، حاول أن يخرج ديوكليسيان من عزلته الرعائية، ولكن على غير جدوى، لرفض ديوكليسيان ذلك مثبتا للعالم بأسره أن من الممكن أن يفضل العاهل، المعبود كإله، في مساء حياته صفاء النفس على شهوة السلطان.
12
إن من يسعده الحظ بأن ينعم النظر في استانبول بمنطاد يسير سيرا مترجحا وئيدا، لا بطائرة سريعة، يبصر مدينة لا مثيل لموقعها في العالم، فكأنها راكبة حصان على بحرين يربط بينهما شريط ملتو لنهر عريض. نعم، إن الخرطوم وليون قائمتان على منحن للنيل والرون فلهما مثل موقع استانبول، غير أنهما لا تسيطران على بحرين بمثل ذلك الجلال والمنظر الروائي. ويمكن نظرنا حين يتطور فوق استانبول أن يمتد بعيدا نحو الشمال ونحو الجنوب، ومن شأن هذا المنظر أن يقوي الانطباع الذي ينشأ عن اتساع الشريط المصغر الواصل بين البحرين، وإذا ما نظر بعد الظهر إلى الضفة الآسيوية أمكن أن يميز عن اليمين قتوم سطح البحر الأسود وزرقته الضاربة إلى سواد، وأن يميز عن الشمال بحر مرمرة الوديع الذي له انعكاس أبيض كالمرآة، وهنالك تعتقد رؤية رمزي العنصرين: الوحشي والصفي، مع الطريق الملتوية كجسر بين الخير والشر.
وتنتشر الحياة على البسفور، وضمن حدود معينة، بين عنصرين غضوبين ، وتشق المياه سفن، وتنتفخ مراكب شراعية، ويجري أسعد تلك الجواري نحو البحر الأبيض ويسير أكثرها مغامرة نحو البحر الأدجن، وتبرز بقع واضحة من تلال غمقة وتظهر فرض وراء صخور، وتتجه نحو الفلك المحترق قباب بفعل غروب الشمس، وترتفع أشجار سرو وقصور بين أخلاط من البيوت البيض، وتعلو مآذن مذربة نحو السماء، وتسمع دعوة المؤذن إلى صلاة المغرب من بعيد. وكان يعيش في القصر الرخامي القائم على الشاطئ خليفة شائب، وأخيرا مات فيه سيد تركية الفتاة. وهذه استانبول تهنأ كإمبراطورة بين بحرين، ويمتد البحر الأبيض أمام استانبول ساكنا خوانا كالهر الأنقروي ذي الأرجل المشرقية. ولم يسطع الرجل الذي أنشأ هذه المدينة أن يتمتع بعمله أكثر من تمتع البستاني بالأشجار التي غرسها، ومع ذلك فإن اسمه ظل باقيا كاسم الإسكندر، وهو معروف لدى الأعقاب أكثر من أسماء معظم أباطرة الرومان.
وبقسطنطين يبرز مثال جديد لعاهل، وقد اضطر كأغسطس أن ينال العرش ثمنا لسنين كثيرة قضاها في مكافحة مختلف الأحزاب، وقد كان عهده طويلا منتجا. وقد كان ابنا غير شرعي لضابط وابنة خمار، وقد ولد في صربية، ويربى تربية صالحة، ويصبح صهرا لإمبراطور، ويغدو وليا للعهد كأغسطس من بعض الوجوه، ويعنى مثله بالإصلاحات الداخلية عناية تامة، وما اضطر إليه من حروب أفاد في حماية حدود الدولة تجاه غارة البرابرة فقط.
وكان قسطنطين يشابه أغسطس بطول الجمجمة وبما تنم عليه الملامح من اتزان وملاحظة، ولكنه كان لا يقاسم أغسطس سر الطبع والرئاء الديمقراطي والنفاق. وكان أغسطس يجعل من قواعد الأخلاق حكما، وذلك مع قضاء أدب في حياته الخاصة مشكوك فيه إلى الغاية، وذلك بين أسرة ذات أخلاق منحلة. وقد قام قسطنطين بشئون الحكم بعيد اضطهاد النصارى، وقد جعل من النصرانية ركن الإمبراطورية مع عدم إبدائه أي اعتقاد باطني كان ومع سيره وفق مصلحة الدولة فقط، وهو لم يعمد إلا في آخر حياته، وهو لم يفعل هذا إلا ليكون مثلا، وكان يصدر عنه من قوى العزلة أكثر مما عن أغسطس الذي لم ينفك يرقب مقدار تأثيره في من حوله، وكان قسطنطين لا ريب أشجع العاهلين القويين اللذين حكما في العاصمتين.
Unknown page