وأخذت عبادة آلهة أوميرس في الأفول منذ القرن السابق، وكان قد مر زمن طويل على تصريح أشيل في الهادس متذمرا بأن فلاحا حيا أسعد من أمير ميت. وقد مر زمن طويل على ظهور الآلهة رفيقة للناس في منازعاتهم وأعمالهم اليومية، ويمضي زمن فلا تبدو الآلهة إلا نادرا، ولا تظهر إلا ظهورا معجزا، وذلك لسموها، أو لطردها، فوق الأرض الزاهرة ودخولها عالما مجردا بالتدريج؛ وذلك لأنها أصبحت من الحضور والقضاة بعد أن كانت رفيقة في المعارك.
ومن السهل أن يكتشف وجود انتقالات بين مبدأي الألوهية. فلما أتى القديس بولس إلى أنطاكية حضر احتفال أدونيس الربيعي الكبير حيث تدفن صورة الإله الميت بين عويل النساء لتظهر ثانية بين هتافات الشعب المبتهج. وكان يمكن سلفا، أو تلميذا، ليسوع أن يلاقي في أثناء سياحاته مصريين يحدثونه عن أوزيرس الذي حملته عذراء، وذلك كولادة الثور المقدس أبيس من بقرة بتول، وكلاهما كان قد لقح بشعاع الشمس أو بشعاع القمر كما عند بعضهم. وقد درس فلاسفة في جميع الإمبراطورية الرومانية عبادة مترا الفارسية وبشر بها جنود كانوا يسرون بهذه الفنون السحرية من غير نسك أو استغفار، ونجد تناول القربان بين طقوس مترا، وهو خبز مقدس وكأس مملوءة ماء وخمرا، ولم يكن جميع هذا مناقضا لأدب العالم اليوناني، بل كان منسجما معه، وهكذا زار أبولون أم أفلاطون، وهكذا اكتشف فيثاغورس روح أناس من آدميي الماضي في الحيوانات فحادث دبا ولاطف نسرا.
ومع ذلك لم يحتج يسوع إلى البحث عن جميع هذا في مكان بعيد، فقد وجده حوله، فالشريعة الأدبية التي ترعرع تحت ظلها، وذلك من الحجر الذي نقشت عليه الوصايا العشر إلى الأسفار الخمسة التي صححت مائة مرة، جهزته بما هو ضروري من العقائد والأساطير لعرض أحلامه الخيالية على قومه، وهو لم يكن قط معارضا لليهودية، وهو لم يعطف قط على مذهب معاد للشعب اليهودي، وهو لم يعارض الأنبياء السابقين بخيال إنساني جديد مثلا بل جاء متما لهم. وفي مار يوحنا ويسوع بعث إرمياء وإشعياء بعد خمسمائة سنة، وكل ما كافحه يسوع هو ما يمارسه الكهنة من طقوس لا معنى لها وما كان إرمياء قد كافحه بنصوص متشابهة، وما كان من نبوءة هدم الهيكل أحاط النبي الجديد بسياج من حقد الكهنة كالذي أثاره سلفه، وكلاهما اضطهد عدوا للوطن.
ووجد يسوع قائما ما كان صالحا لوضع أساس معتقده، وذلك كالتكوين والعناية الربانية ويوم الحساب وطاعة الله ومحبة الضعفاء (وفي مزامير سليمان التي كتبت حوالي سنة 70 قبل الميلاد والأناجيل التي كتبت حوالي سنة 70 بعد الميلاد دلالة على الآمال المسياوية)، ووجد يسوع أيضا تعبيرا للأدب الذي كان يعلمه ويخاطب هلل السابق أحد المرتابين حوالي سنة 30 قبل الميلاد معبرا بالكلمة الآتية عن روح الأدب اليهودي: «لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به.» وإذا كان اليهود قد عبروا، كالوثنيين، عن الأساطير والأقاصيص والوصايا والتاريخ وسجلوا هذه الأمور، وإذا كانوا قد قيدوا كل ما يشتمل على جوهر الأناجيل، فما هي مزية يسوع الخاصة إذن؟
مزيته في كونه انتهى إلى نتائج عظيمة؛ أي في هدمه أبواب الحصن الذي كان يعزل اليهود، وفي مده ذراعيه إلى العالم، وفي أنه جعل دينا عالميا من دين احتفظ به شعب صغير حاسدا، فبحث هذا الشعب المضطهد عن ملجأ له في إيمانه برسالته كشعب مختار، وفي أنه ملأ الهوة بين الإيمان والشعور القومي الذي كان قد هز قلوب الأنبياء الشيب؛ وذلك لأنه كان يبالي بنجاة البشر أكثر مما بصدارة الأمم، ويرى ابن ميمون الذي هو من أعاظم اليهود أن عيسى والعرب قد أعدوا السبيل للمسيح المنتظر.
وأنقذ يسوع العناصر الغالية من العقائد التي احتفظ بها الكهنة العند المحافظون عن حسد ؛ أي أنقذها من أدب لم يسطع أن يسيطر على العالم في ألف سنة لادعاء شعب صغير حيازته له وحده كتراث قومي، وبما أن دعوته جاوزت حدود بلده فقد أسس جمعية بين الأمم وأوجد شعورا جديدا يفوق الشعور حول الدولة، وهو حين دعا الأمم إلى تأليف حلف بشري شامل للعبيد والبرابرة أيضا، لا إلى تأليف حلف قومي، يكون قد جاوز شواطئ البحر المتوسط، ومع أن يسوع لم يجاوز حدود بلده الصغير غدا فاتحا أعظم من الإسكندر.
وهو، إذ يأتي بالرحمة والعدل والنجاة والمسيح من أسوار أورشليم الحجرية إلى بساتين الجليل، يكون قد حول الإله الشديد العنيف، يكون قد حول إله الحرب والانتقام، إلى إله حليم كريم، إلى حمل كما كان شخصه، وهو يدعو نفسه ابنا للرب وأخا للناس بلا وجد، ولكن مع كل خشوع، وهو لم يقدم حياته مختارا عن حب للحقيقة، غير أن موته كان من القسوة والظلم ما يبدو يسوع معه ضحية موكدة متوجة لرسالته، وهنالك عنصران بشريان، هنالك موته ووجه أمه (التي هي أول إلهة بين اليهود)، قد أضفيا عليه من الشعاع ما لم يتفق لأحد من بني وطنه سابقا، ويعرض اليهود عنه فيتقبله العالم، وكان الناس يأملون أن يجدوا السلام به.
3
ولا يقع الذنب عليه إذا لم يجد العالم غير السيف، ولا يكون الأنبياء والفلاسفة ما هم عليه لو لم ينكروا أو يسفهوا من قبل أناس أنانيين حاسدين. وقد ظهر طالب الرب يسوع في زمان ومكان يشوه فيهما خياله النبيل بحكم الضرورة، وقد أبرز مثل ثوري يسوع الذي كان يسمو فوق الدولة والذي كانت روحه تسير في الأثير بجانب أبيه العلي. ولم يكن يسوع أول من حوله مذهبه، حول حياة أخرى أطيب من الحياة الدنيا، إلى ثائر شعبي على الرغم منه. ويجب على من يعلن أن الصحة والقوة والعمل المنتج والتمتع والسعادة من الشرور، ويجب على من لا يحاول بلوغ هذه الأمور، أن يكون جاذبا جذبا طبيعيا لجميع من هم عاطلون منها، وخضع الفقراء للقدر دوما ، ويسمي الفقراء أمرا مقضيا كل ما يعدهم بعالم أحسن من العالم الراهن، ويفضل الآخرون من ذوي الطبائع الخصيبة المسيطرة والأمزجة المبدعة أن يكونوا مدينين لأنفسهم بفوزهم فتراهم يأبون الاعتراف بعمل القدر.
وجعلت تعاليم يسوع المثالية منه شيوعيا في الحياة الاجتماعية وأدنته من مذهب كان يؤدي إلى حياة هادئة في فلسطين منذ أكثر من قرن ونصف قرن. ولم يكن الإيسيون ثوريين، بل كانوا مثاليين طليقي الوجه، وقد ألفوا منظمة من أربعة آلاف عضو حوالي ذلك الدور فكانوا يعيشون في القرى والمدن معا من غير تملك خاص، وكانوا يوزعون أغذيتهم وثيابهم ويحظرون حمل السلاح ولا يتاجرون فيما بينهم، وكانوا يتحلون بالحلم والورع ويسلمون كل مال منال إلى لجنة مفوض إليها أمر توزيعه. ولم يكن هؤلاء الناس من الزهاد في الدنيا ولم يكونوا ممن يعيش من الصدقة كالنساك أو ذيوجانس، وإنما كانوا يعملون كفلاحين وعمال، وهم، وإن لم يحرموا الزواج، كانوا يحذرونه، وهم، وإن أباحوا التناسل، كانوا يرون من الإثم أن يهدف النكاح إلى الاستمتاع، وإذ عدوت هذا المبدأ الطهري وجدت كل شيء عندهم مثيرا للعاطفة.
Unknown page