ما هي الكلمة؟
والكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
قال فيكتور هوغو: إن الكلمة كائن حي،
6
وقد تكون خالقا ساعة تجعل المخيلة ترى ما لا يرى، وتنظم القرطاس أفقا مفعما بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرا يصير الغائب حاضرا والعدم وجودا.
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد. وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي ... فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي ... إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينا وإصلاحا. ذلك لأن الكتابة التي يراها الكثيرون مسألة هينة أكثر الفنون دقة وعسرا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموجها وتحنيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسر تملص من القواعد والنصوص وترفع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة. وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
كذلك فيه الحكم بالإعدام أو بالخلود. وهناك معيار للوقوف على مقدرة الكاتب ومعرفة النقطة المتغلبة لديه ودرجة إدراكه للسر المكنون، وهو المقابلة بين ما كتبه هو وما كتبه آخرون في الموضوع نفسه. •••
لنخضعن بعض صفحات الباحثة بل جميع فصول «النسائيات» لهذا الحكم نجد اللغة في يدها آلة دقيقة ماهرة في تدوين ما تريد. ولا أعرف من هو أقدر منها على وضع الكلمة في مكانها، بحيث إنك لو تعمدت حذف لفظة من جملة كنت باترا مجموع المعنى. هي تخبرك عن أحقر الأشياء برشاقة وبلاغة لأنها مصرية كل المصرية، أي إن الرشاقة والبلاغة طبيعتان فيها سبق وجودهما عندها قلم الكاتب. وقد وضعت «للكاتب» وصفا وما كانت واصفة إلا نفسها في هذه الفذلكة التي هي من أدل ما كتبت على جمال أسلوبها:
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات. وإن شئت فقل هما سلك كهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم. تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفا حرفا بلا زيادة ولا نقصان. والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال. فالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب والتطبع سمل بال قليل الستر إن وارى شيئا تظهر منه أشياء. والفكرة وإن جانبتها لا تزال تحوم حواليك وترفرف إلى أن تجد لها مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
Unknown page