ثم تنهدت أخذا للراحة واقتربت منها قائلة بصوت لا يكاد يسمع: إنني على ثقة من نقاوة قلبك يا لوسيا، وهذا ما يحملني على الغيرة عليك؛ لأن أنقى الناس قلبا أشدهم انخداعا بمكر الأشرار، فاسمحي لي بأن أقول لك بأنك إن بقيت على إهمالك وتساهلك وانخداعك بظواهر ومظاهرات بعض هؤلاء الشبان فأنت هالكة لا محالة؛ لأن هؤلاء وإن أظهروا لك اعتبارا واحتراما فهم ليسوا هكذا في الباطن؛ لأن الفتاة التي لا تصون آدابها وحشمتها عن الشاب لا يعتبرها هو ولا يصون لها ما هي أحق بصونه، وإذا أحب معاشرتها فلا يجب الاقتران بها إلا إذا كان جاهلا أو كان يرجو أن تغير سلوكها، وهذا نادر.
وقبل أن تنتهي بديعة من كلامها طرق الباب ودخل منه شاب طويل القامة جميل المحيا حسن البزة، فحيا بديعة ودنا من لوسيا التي وقفت له حالا، إلا أنها كانت متهيئة فأخذت بيده وخرجت من الباب وهي تقول لبديعة: «خاطرك.» ولما وصلت إلى حيث كانت العربة بانتظارهما ضحكت ضحكة عالية سمعتها بديعة فقالت: إنها تفضل هذه المعيشة التي فيها «السرور والبسط» على المعيشة الحقيقية، ولكن سيأتي يوم لا تعود هذه الأمور لذيذة لها كما هي الآن، وتصير تطلب مؤنة ذلك اليوم فلا تجدها، ويصح فيها مثل «الزيز والنملة».
وكانت ضحكتها لم تزل ترن في أذني بديعة، فقالت: ما معنى هذه الضحكة ... ثم ذكرت أمرا فقالت إنها ستخبر ذلك الشاب بالكلام الذي قلته لها ويشاركها هو في ضحكها مني، فمن الجهل أن ينهى الإنسان فتاة جاهلة غبية عن أمر صار يتعلق بشاب ما؛ لأنه بذلك يعرض نفسه لعداوتين بدل العداوة الواحدة: عداوة الفتاة وعداوة الشاب.
خرجت لوسيا مستندة إلى ذراع ذلك الشاب وهو يردد على مسامعها جملا ربما رددها على مسامع الكثيرات من الفتيات مثلها، وكل واحدة يقول لها ما هو قائل الآن للوسيا: «إنني أحببت قبلا ولكنني لم أعرف ما هو الحب الحقيقي حتى عرفتك.» كلام تغتر به تلك الفتاة الجاهلة وتصدقه، وهو ربما قاله لغيرها في اليوم الثاني. ومشت دائسة بقدميها الصغيرتين نصائح صديقتها المختبرة المخلصة، ولم تفتكر في أنها بذهابها أتت أمرا، وإن يكن جائزا عند ذوي التسامح والتغاضي من الأمريكان فهو غير جائز عند عليتهم ولا عند بني وطنها. ومن العجائب أن هذه الفتاة التي أتت ما يضر بنفسها لم تبال كبديعة التي وقفت تنظر إليها بأسف وحسرة.
ولحسن حظها وصلت جميلة في تلك الساعة مع امرأة كانت ترافقها واعتذرت كثيرا لبديعة عن تأخرها الاضطراري، وبعد أن ذهبت تلك المرأة إلى غرفتها نظرت جميلة إلى بديعة فوجدتها مضطربة جدا. ولما عرفت السبب قالت لها بقنوط: يجب أن نتركها وشأنها؛ لأنها قد تمادت في الغواية، ونصائحك لا تجديها نفعا، وهي فتاة متكبرة.
فقالت بديعة متنهدة: يا ليتها تعرف كيف تتكبر يا جميلة لأن من الكبرياء ما هو مفيد، كما لو تكبرت على معاشرة بعض الشبان وهي لا تحب الاقتران بأحدهم، وكما لو تكبرت على قبول هداياهم، والآداب تحظر على المرأة قبول هدية نفيسة من رجل غريب ... آه يا جميلة! إنني بقدر ما كنت سعيدة حين أنقذتك من الغرق أكون تعيسة إذا افترقت عن لوسيا بهذه الصورة.
فقالت جميلة بحزن: لا أدري ما الذي غير أخلاقها، فهل من دواء لدائها يا ترى؟
فقالت بديعة: لم يغير عقلها شيء، بل إنه قابل لهذه الأمور، وما كان «يقصرها عن صعود الجبل إلا الحفا»، أما الآن وقد لبست حذاء بخمسة ريالات ... فقد صارت قادرة على السير بسرعة كلية ... لأن ريح حرية أمريكا العاصفة لا تحرك الجبال الراسية بل تحرك العشب وتلويه ... فإنني أنا أفضل ألف مرة موت الجسد على موت النفس؛ لأنه إذا مات الجسد وكانت النفس طاهرة فإنها تبقي ذكرا حسنا على الأرض، وأما إذا ماتت النفس وبقي الجسد حيا فهناك الأثر القبيح.
الفصل السادس عشر
اللقاء وابتداء المصائب
Unknown page