ويزيد بعض حديثنا سحرا
بل يكفي أن يتخذ له سحنة صناعية، وأن تضع المعشوقة خرقة سوداء على وجهها المشرق الجميل كما يحجب البدر بالسحاب، أو كما تحجب الشمس بالضباب، ثم يتلاقيان، فلا يعرفهما رقيب، ولا يشعر بهما حسيب.
وربما نظر امرؤ إلى فتاة فاطلع منها على كل مغيب مكنون «إلا الوجه الكريم» فتبعتها نفسه، وعلق بها فؤاده، وقد تكون أخته وما يدري؛ لأن «أقطاب» هذا المرقص يبدلون خلق الله، فيلبس الأمرد لحية بيضاء، أو زرقاء، وتتخذ الفتاة لوجهها من سود البراقع ما تشاء، وما ضر الفتى والفتاة أن تحجب من وجهيهما آثار الجمال، ما دام الخصر على الخصر والساق على الساق.
ولو كنت معنا هناك لفزت فوزا عظيما، فقد حشرت في تلك البقعة فنون الملاحة وألوان الفتون، كما تحشر ضروب السحر في الطرف الغضيض.
دواعي الشعر
1
أيها السادة
إن القمر الزاهر الذي يغازل الشعراء كما يغازلونه، والبحر الزاخر الذي يعجب الأدباء بأمواجه المتلاطمة كما يعجب بأفكارهم المعجزة، والروض الضاحك الذي يبسم الكتاب لأزهاره الشائقة كما يبسم لكلماتهم المتناسقة؛ تلك الظواهر الطبيعية التي تبعث على الشعر، وتدعو إليه؛ هي هي في كل قطر، وفي عيني كل كاتب، وفؤاد كل شاعر، وذلك ما أوجد التشابه في خيالات الشعراء، وأفكار الكتاب، وجعل الفرق غير بعيد بين قديم الشعر وحديثه، وطارف النثر وتليده.
فإذا قال قائل: إن العقل البشري سائر نحو الارتقاء في كل سبيل إلا من حيث الخيال الشعري؛ فاعلم أن ذلك ليس لعجز في القوى البشرية، أو تقصير من الشعراء أنفسهم، إنما كان ذلك؛ لأن دواعي الشعر خلقت مع الإنسان يوم خلقه، بل قبل أن يخلق بأجيال، فلا بدع إذا أن يظل امرؤ القيس شاعر العرب وهوميروس شاعر اليونان، وإن طال العهد وبعد الأمد، ولا كذلك ما عدا الشعر في الفنون والصناعات، فإن موجباتها خلقت مع الحوادث شيئا فشيئا، ولا تزال. فليس عجيبا بعدئذ أن يقف الشعر أو يسير سيرا هادئا في حين أن باقي الفنون تسابق الظل، وتجاري الريح في السير نحو الكمال.
تلك - أيها السادة - علالة المتعلل وحجة الضعيف المغلوب، وكيف تكون دواعي الشعر بالأمس هي نفسها دواعيه اليوم؟ نعم إن السماء ما زالت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن البحار ما زالت زاخرة عجاجة على نحو من العظمة والجلال، يتشابه أوله مع آخره، وإن الرياض ما زالت تلبس في الحاضر، أثوابها في الماضي، ولكن هل ينبغي أن يكون شاعر اليوم كشاعر الأمس؟ كلا والله، فإن الناس من قبل كانوا ينظرون إلى السماء من بعد، فأصبحوا يتبينون خفاياها بالمراصد، وكانوا يعجبون بالبحر وهم وقوف على شاطئه، فأصبحوا اليوم يخوضون أحشاءه ويسبرون أغواره، وكانوا ينعمون بالرياض، وهي حسناء مهلهلة الثياب فأصبحوا يلهون بها عذراء غضة.
Unknown page