ما أجهل من يتخيل أمرا ويتصوره بشكله ومعالمه، وعندما يستحيل عليه إثباته بالمقاييس السطحية والبراهين اللفظية يحسب الخيال وهما والتصور شيئا فارغا. ولكن، لو تعمق قليلا وتأمل هنيهة لعلم أن الخيال حقيقة لم تتحجر بعد، وأن التصور معرفة أسمى من أن تتقيد بسلاسل المقاييس، وأعلى وأرحب من أن تسجن بأقفاص الألفاظ.
نجيب :
أفي كل خيال حقيقة، يا سيدتي، وهل في كل تصور معرفة؟
العلوية :
إي والحق، إن مرآة النفس لا تعكس سوى ما انتصب أمامها، ولو شاءت لما استطاعت. إن البحيرة الهادئة لا تريك في أعماقها خطوط جبال ورسوم أشجار وأشكال غيوم لا وجود لها بالحقيقة، ولو شاءت البحيرة لما استطاعت. إن خلايا الروح لا ترجع إليك صدى أصوات لم يرتعش بها الأثير حقا، ولو شاءت الخلايا لما استطاعت. إن النور لا يلقي على الأرض ظل شيء لا كيان له، ولو شاء النور لما استطاع.
إنما الإيمان بالشيء المعرفة بالشيء. والمؤمن يرى ببصيرته الروحية ما لا يراه الباحثون والمنقبون بعيون رؤوسهم، ويدرك بفكرته الباطنة ما لا يستطيعون إدراكه بفكرتهم المقتبسة. المؤمن يختبر الحقائق القدسية بحواس تختلف عن الحواس التي يستخدمها الناس كافة، فيظنها جدارا محكم البناء فيسير في طريقه قائلا: ليس لهذه المدينة من أبواب. (تقف العلوية وتخطو بضع خطوات نحو نجيب، وبلهجة من أوشك أن يبلغ من الكلام حدا لا يريد الزيادة عليه تقول):
إن المؤمن يعيش كل الأيام وكل الليالي، أما غير المؤمن فلا يعيش سوى ثوان معدودة منها. فما أضيق عيش من يرفع يده بين وجهه والعالم أجمع فلا يرى غير الخطوط في كفه ، وما أشد شفقتي على من يدير ظهره إلى الشمس فلا يرى ظل جسده على التراب.
نجيب (ينتصب واقفا شاعرا بدنو ساعة انصرافه) :
أأقول للناس، يا سيدتي، عندما أعود إليهم: إن إرم ذات العماد مدينة أحلام روحية، وإن آمنة العلوية قد سارت إليها على سبيل الشوق ودخلتها من باب الإيمان؟
العلوية :
Unknown page