أدرك ورقة أنهم يأتمرون بالنبي، وعرف من بين المتآمرين صوتا ما كان يظن أن يكون مع المشركين على هذا، ولكنه قدر أن يكون معهم اضطرارا. ذلك هو زياد عبد الحارث أو بالأحرى عبد النضر، وأدرك لوجوده أن المؤامرة دبرها النضر؛ ليقتل رسول الله، وخشي إن هو تركهم أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
قد انتوى صلاة الفجر مع أبي بكر في بيته، وكان قريبا، وفي هذا ما يعرضه للأذى، وخطر له أن يوقظ زيد بن حارثة؛ ليلقي إليه خبر هؤلاء، ولكنه خشي أن يعاجلوه إذا نهض بالقتل فيموت في غرض يمكن تحقيقه بما أهو أهون عليه، وأعود بالخير على بني هاشم. فاستمر متظاهرا بالنوم فرآهم مروا به، ثم وقفوا عليه هنيهة وانصرفوا، فما كادوا ينعطفون حتى نهض وشد قوسه فرمى أحدهم بين كتفيه فسقط، ورمى زيادا في كفه فتقطعت، وأراد أن يدرك الثالث ولكنه جرى حتى أخفاه الظلام. فنهض بعض خدم الرسول على الصوت ، وفتحوا الباب؛ فوجدوا ورقة عائدا، وسألوه فأخبرهم الخبر، فشكروه وقبلوه، وذهبوا إلى الرجل الملقى على الأرض فوجدوه من عبيد بيت النضر عينا، فنقلوه إلى مكان أبين؛ ليراه الناس في غدهم، ويعلموا ما دبر النضر.
وكأن النضر قد علم بما لقي رجاله فأرسل من ينقل القتيل، ويتعرف القاتل، ولكنهم لم يجدوه. وجدوا بيت الرسول محروسا بغير واحد، فولوا الأدبار مهطعين، وكان الفجر قد أوشك أن يلوح، ورأى ابن حارثة أن يذهب ورقة؛ لينام ويتركهم لينوبوا عنه في حراسته، وأصروا على ذلك فلم يجد بدا من إطاعتهم، ولكنه ما كاد يصل إلى الدار حتى رأى على بابها رجلا مربوط اليد ينتظره وهو يئن أنين مكلوم، فلما دنا منه ورقة عرف أنه زياد بعينه الذي ضربه. قال: ما خطبك يا زياد؟ قال: أرسلني إليك مولاي الحارث؛ لتضمد جرحي بشيء من العقاقير، فإنه لا يجد في داره شيئا، وقد كتب لك اسم الدواء على هذا الرق، وكان ورقة قد تأمل زيادا فلم يجد عليه ما يريبه من أمره، فدق الباب ليفتح له، وأخذ الرق منه ودخل به إلى الدار ليقرأها. فإذا فيها: موه عليه، وانج بنفسك وإلا هلكت. فسكت ورقة وغرق في بحر من الفكر والعجب. كيف عرف النضر أنه هو الذي قتل؟ ولكن الأمر لم يكن عجيبا في الواقع؛ لأن النضر كان قد شغل نفسه بذلك، وكان له جواسيس وعيون من رجال ونساء، وكان من السهل عليه أن يعلم أن ورقة عاد، وأنه يحرس بيت رسول الله كل ليلة، ولكنه لم يشأ أن يعلن أحدا بذلك، ولاسيما زيادا؛ لأنه كان يعلم ما بينهما من مودة فأبقاه جاهلا أمره حتى تلك الليلة، ولكن ورقة لم يكن في حاجة إلى هذا الكتمان، ولا سيما بعد ما جاءه العلم من الحارث بظهور أمره. فقال له: حتى أنت يا زياد تأتي مع القتلة؛ لتقتل رسول الله. فشده زياد لما سمع، وقال: كيف علمت ذلك؟ قال: وماذا يهمك كيف علمت؟ ألست من موالي أم المؤمنين؟ وإن كنت حرا . قال: بلى، وإذا كنت لم تستطع أن تخالف لسيدتك الطيبة العفوة أمرا، فكيف أملك أن أخالف لسيدي الشرير السافل أمرا. لقد دفعني إلى ذلك دفعا، وأنذرني إن أنا ذكرت شيئا لأبيه أن يقتلني فكتمته، وهذا ما أصابني الليلة؛ إذ كنت في المؤتمرين، ولكن من أين لهم أني أنا أحدهم؟ قال ورقة: هذا ما دلني عليه جرحك البالغ. قال: أولا تكتم أمري؟ قال: لا والله، ولقد كنت أحب أن تكون أنت المقتول. أتخونني يا زياد في نبيي؟ وقد علمت قدر حبي له؟ قال: واسوأتاه!! هذا أقتل لنفسي من كل قتل. ليتني ألقى رسول الله وأنيب إليه بفيض دمعي وسيل قلبي. خذني بحقك إليه. إني أريد أن أطأطئ عنقي لسيفه ليضربني، فوحق الله وذلة الرق الذي أنا فيه لا يريح قلبي من إثم ما فعلت إلا أن أرى سيف رسول الله يهوي على رقبتي. لا أرى لعقابي إن أنا نجوت إلا أن أظل على شركي وكفري؛ ليعذبني الله عذابه الشديد لقاء ما همت نفسي بقتل رسول الله.
هنا تراءى باقوم ونادى: أسلم يا فتى. أسلم وأشهد الله على إيمانك، فإنك قد تبت وأنبت، وإني لأمنحك عن رسول الله عفوا وإحسانا. قال زياد وقد تحدر دمعه، واختنق صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنني أجرمت وأسأت، ولا يسع جرمي إلا عفو الله ورسوله. فتناوله باقوم على الأثر، وعلمه الوضوء، وتوضأوا جميعا وصلوا صلاة الفجر معا.
ثم أخذه ورقة إلى غرفته وطمأنه بأنه لم يخبر أحدا أنه كان من المؤتمرين. ثم سأله عن حال هرميون ولمياء فقال: إنه أسوأ حال؛ لأن النضر يلح في أن يزوجها من فتى من بني عبد الدار، وهي وأمها ترفضان، ولكنه يخشى أن تحمل إليه حملا وإكراها، ولكني أعلم حق العلم أن لمياء عازمة على قتل نفسها ليلة الزفاف، وأمها لا تشك في ذلك فهي لا تفارقها، ولا تنقطع عن الشجار مع زوجها وابن زوجها بسبب ذلك .
والواقع أنه في اللحظة التي كان فيها زياد عند ورقة والنضر والحارث مشغولين بما جرى؛ إذ كان الحارث قد وقف على ما كان ابنه يدبره من السوء - كانت هرميون ولمياء على ظهر ناقتين من أهزل النوق تسيران في طريق جدة.
كانت هرميون تكره زواج ابنتها من عربي، وكانت لمياء تكره كل زواج بعدما خاب أمل قلبها، وكان النضر يوشك أن يضربهما الضربة القاضية، فلم تجد هرميون بدا من المجازفة، وأخذت تتحين الفرصة حتى وجدتها في تلك الساعة فانسلت بابنتها على الأقدام، حتى بلغتا بعض خيام كانت قد نزلت عندها هي والحارث يوم جاءت معه من مصر وأكرمهم أهلها أيما إكرام، وأكرمتهم هي من جانبها؛ إذ أعطت أهلها ثيابا ومالا.
هناك التقت بالعجوز ربة الدار وزوجها وابنة لهما، وكانتا متنكرتين كل تنكر، فلم يعرفوهما لأول وهلة، ولكن العرب كرام فلم يسائلوهما في شيء، إلى أن وجدت هرميون فرصة للحديث مع الزوجة فأخبرتها خبرها، وطلبت إليها رواحل؛ لتنقلها هي وابنتها إلى جدة، وحلفتها بكل مقدس لديها أن تكتم خبرها حتى لا يعرف أحد مكانها. فطمأنتها المرأة على ذلك، وخلت بزوجها فأجاب وأعد بعرانه، ونقدت هرميون المرأة أجرة البعران نقدا سخيا، ووعدت أن تكرم الزوج عند بلوغها سالمة إلى جدة، وتطوع الزوج إزاء هذه المكارم أن يسير بهما في غير الطريق المعتاد، مارا بمفازة سكانها أهله وأولاد له؛ ليبلغ جدة مسرعا وكذلك كان.
هناك وجدتا سفينة على وشك الرحيل إلى عيذاب كانت آتية من بلاد الحبشة تحمل من خيراتها شيئا كثيرا إلى مصر، ولكنها لم تكن لتحمل ركابا، ولذلك أبى صاحبها أن يأخذا أحدا معه، ولكن هرميون توسلت إليه وكلمته بالرومية، وخبرته أنه إن لم يأخذها معه فسيردها أعداؤها وهم من ولاة مكة، إلى حيث يعذبونها. فلم يسع الرجل إلا أن يبادر فينقلها، وينشر قلوع السفينة على الفور؛ ليرحل بها من بلاد كرهتها اليوم كرها شديدا. لم يفت هرميون أن تكرم العربي الذي نقلها أيما إكرام، وتحمله رسالة شكر وسلام إلى زوجته وابنته .
Unknown page