نترك ورقة إذن في ارتياداته وقفلاته يسلخ من حياة الدنيا عاما، وهو على ما هو عليه من هدوء النفس والارتياح إلى عشرة أستاذه الجديد: نعيم؛ يشتغل معه، ويعمل له حتى أصبح ينوب عنه في كل شيء: يبيع له، ويشتري من أعراب نجد، وخولان، وقوافل عدن وغير عدن بما علمه نعيم، ويعقد صفقات صغيرة وأخرى كبيرة مع المستبضعين من صغار تجار العشب ومستورديه، ونعيم فرح به مغتبط ومثن عليه. حتى إذا كان ذات يوم قائما في دكانة نعيم دخل عليه قس من قساوسة نجران كان يعرفه؛ لكثرة التقائه به في بيت الأسقف، جاء إلى صنعاء في شأن من شئون الكنيسة، وكان يعلم من الأسقف أن ورقة في صنعاء، ومن الحارث أنه عند نعيم فجاء يزوره.
رحب به ورقة أيما ترحيب، واستأذن من أستاذه في مرافقته، فأذن له وكلفه أن يدعوه للعشاء معهم، وقبل القس ذلك شاكرا رغبة منه في الائتناس بصاحبه في بلدة ليس له فيها صاحب، وإن كان معتادا أن يزورها في طلب حاجات الكنيسة.
على أنه كان يحمل من هرميون ولمياء سلاما ودعاء وأشواقا، وإن كان قد احتفظ له بها قرابة عام؛ ذلك أنهما كانتا تعلمان أنه رسول الكنيسة، وقاضي حاجاتها من صنعاء؛ فكلفتاه أن يلقى ورقة عند نعيم الصيدلاني يوم يصل إلى صنعاء، ويبلغه عواطف المحبة والرضا. أبلغه ذلك، وأبلغه أنهما سافرتا من نجران منذ عام، وأنه جاء صنعاء مرتين، وجاء إلى الدكانة، ولكنه لم يلقه؛ إذ كان ورقة مسافرا مع نعيم، وأنه اليوم سعيد بأن يلقاه ويبلغه رسالة السيدتين.
وعلم ورقة منه أنهما سافرتا مع الحارث وولده النضر إلى مكة عينا، وأنهما ستبقيان بها نزولا إلى إرادة النضر؛ إذ أبى أن يسافر إلى العراق، وأن الأسقف نصح لهرميون أن تطيع زوجها فيما رأى من العودة بها وبلمياء إلى مكة بعد مشهد عصيب كان الحارث فيه على وشك أن يطلق هرميون، ويأخذ ابنتها منها.
قال ورقة: مسكينة هذه المرأة! قال: حقا هي كذلك، ولكنها لم تكن على صواب. قال ورقة وقد أفاق بعد ذلك الحديث الذي أحزنه: فيم كان خطؤها؟ قال القس: كان في استطاعتها أن تبقى في نجران لو أرادت فقد طلب أحد بني عبد المدان من الحارث أن يزوجه لمياء، ورضي الرجل، بل رضي النضر الذي ما رأيته يقر شيئا يكون فيه خير أبدا، ولكنها رفضت واعتذرت كما قالت لي بربارة قهرمانة الأسقف معاذير عجيبة. قالت: إنها لا تزوجها من عربي أبدا. فلما تدخل النضر في الأمر قالت: إن بينها وبين زوجها صكا بذلك؛ أي: أن يكون زواجها بيدها لا بيده، قال نعيم وكان يسمع: والله إني لأراها على صواب. ما هؤلاء الأمراء يا مولانا إلا أسماء لأجلاف صحراويين يشقون الناس باسم الإمارة والسيادة. قال القس: وهل تستطيع هرميون أن تعود إلى الإسكندرية والطريق مزروعة فيها الأسنة والسيوف. لن تنتهي هذه الحرب بين الفرس والروم قبل عشرين سنة تكون فيها ابنتها قد عنست، وتكون هي قد آمت، ولم يصبح لهما ذكر في الدنيا. قال ورقة: ولمياء ألم يكن لها في هذه المعمعة رأي؟ قال: ثق أن رأيها رأي أمها. قال نعيم: محال أن يكون الأمر كذلك، ترفض العذراء زوجا من أهل الإمارة انتظارا لزوج يذهب بها القدر إليه في الإسكندرية بعد زمن لا تدري ذرعه! قال القس: بل أؤكد لك ذلك، فقد خبرتني القهرمانة أن الفتاة أعلنت والدها أنها نذرت لله أن تتعنس، وأنها لا تريد الزواج، فإن حملها عليه فهي تدري كيف تنجو بنفسها منه. فأدرك الحارث أن ابنته تنذره بالانتحار، وقبل أن يأتي الغد عليه ويعطي كلمة لبني عبد المدان رفضا أو قبولا - كان قد ارتحل عن نجران بأهله إلى مكة، وهون على امرأته يومئذ هذا الارتحال أنها لم تكن تستطيع أن تلقى نساء بني عبد المدان بعد هذا الرفض.
عرف ورقة سر ذلك فاشتغلت نفسه بما سمع، وبات ليلته سهران يفكر في لمياء، وكلما غالب نفسه على النسيان، وصرف الفكر عنها، ويذكر أنه عاهد نفسه أن يقطع صلته بها، وهدأ على ذلك - وجد قلبه ينازعه، وأخيرا وجد نفسه يعتزم الرحلة إلى مكة لغير قصد ظاهر، ولا أمل معين، ولكنه شعر أن وجوده في مكة بجوار من يحب هو المنى كل المنى، وهاج في نفسه الرحلة والإصرار عليها أنه كان في الشهر الأخير من الشتاء، وأن قافلة مكة عائدة إليها صبيحة الربيع.
أعلن ورقة الصيدلاني نعيما برغبته هذه، ولم يستطع نعيم ولا أهل بيته صده عن الرحيل، ولذلك قضيا قرابة الأسبوع في تجهيز ما يحتاج إليه ورقة من البضاعة التي كان يعد نفسه للإتجار فيها في مكة، وكان المال الذي تجمع لديه كثيرا، إذ جاوز مائة دينار؛ لأنه اضطر أن يبيع جواده لرسل جاءوا من بلاد الفرس في طلب الخيل للحرب، ولم يكن في استطاعته مخالفة رغبة الحكام، أو إخفاء الجواد عن العيون. كما أن ما تركه له أستاذه الحارث من العقاقير عند نعيم كان بقدر كبير؛ ولذلك رأى ورقة ألا يستهلك ماله كله في العقاقير، وإذ رأى من الحكمة أن يشتري بعرانا لنقل حموله، وكان قد عرف جمالا ممن يحملون البضاعة لنعيم؛ فقد اتفق معه على أن يذهب به إلى سوق الجمال ليشتري بخبرته ثلاثة بعران يحمل عليها بضاعته على أن يجعله على جماله في عير اليهود الذاهبين إلى القدس.
على أن الجمال خانه - كما علمنا - وفر بالمال، فاضطر إلى أن يشتري بما بقي معه جمالا أخرى، ويخرج بها من صنعاء بعد العير بيوم مجتازا بها مفاوز محفوفة بالأخطار؛ ليدرك قافلة مكة في نجران، فحدث له ما حدث من الالتقاء بالجمال وعير اليهود في حلة الأراك، ووقع له ما وقع مع الذئاب والقرضاب وإنقاذه الغلام رؤبة، ثم وصل إلى نجران في موهن الليل برسالة من إسحاق؛ ليعوق القافلة عن المسير يوما حتى يدركها، ويسير في حماها.
الفصل السادس والعشرون
الصحيفة
Unknown page