155

فلما فتح باب الرواق، واتصل بالجو تواردت الأصوات مع ريح الغرب بما في طياتها من صراخ مذعر، وعويل فاجع، وهتاف مخيف، وقعقعة أسلحة تتلاطم. فأدركوا الحقيقة المؤلمة، ونزلوا مهرولين يلتمسون طريق المرفأ الإمبراطوري.

فما كاد النساء يبلغن الشاطئ حتى رئي جماعة من جنود الفرس يجرون وراء الجمع، وحراس القصر يتساقطون تحت سيوفهم؛ إذ فاجأهم جنودب الفرس، وهم مشغولون بتعجبهم؛ لما يرون من نهوض الأمير مبكرا هو وحارسه والبطريق الأعظم يوحنا الرحوم، وأتباع له من القساوسة ونساء ورجال لم يشهدوهم من قبل.

كان الفرس ممن دخلوا مع بطرس في مراكب الصيادين. جعلهم السلار شاهين تحت إمرته، وأمرهم أن يكونوا طوع أمره فيما يرى، ولذلك لم يذهب بهم إلى باب القمر مع سائر إخوانهم، بل سار بهم إلى بيت قوزمان؛ ليستعين بهم على سبي لمياء، وهناك اقتحموا باب الحديقة، وقتلوا الحارس؛ ليأمنوا استغاثته، وصعدوا الدرج الذي شهد منه النساء إذلال ورقة لبطرس، واقتحم باب الدار أيضا، وصعد يبحث عن أهلها وهو متنكر ملثم الوجه. فلما لم يجد بالدار أحدا، ووجد أثر التحميل والرحيل سقط في يده، وأدرك أن الفريسة فرت من بين أصابعه، ولكنه على عادته لم ييأس فنزل بالجند مسرعا وهو في أشد الأسف؛ لقتله الحارس المسكين، إذ كان يستطيع أن يدله أين ذهبوا؛ ليقتفي آثارهم، وفي نيته أن يبحث عنهم في كل مظنة، ولذلك لم ينقطع جهده عند ذلك الحد.

ذهب بهم إلى بيت أورست مارا من باب المكتبة الذي كان له منذ عهد غير بعيد، واقتحم بهم بيت الغائب، وإنما ذهب هناك؛ لأنه كان وهو متنكر بحرفة الصيادين لا ينقطع عن بيت خليلته بعد أن نقلها إلى مكان آخر، وعرف ممن يتصلون به في صورته الجديدة أن هيلانة تزوجت من أورست، ولمياء من ورقة، ولكنهما سافرا إلى القسطنطينية في مهمة للأمير. فقدر بطرس أن الرجلين عادا، أو أن هيلانة انتقلت إلى بيتها الجديد، وأن أهلها ذهبوا إليها في زيارة، وقدر غير ذلك. فسار إلى بيت أورست؛ ليرى أي وجوه حدسه أصدق.

لم يجد بغيته في بيت أورست كذلك، ورأى أثر تحميل لرحيل فكاد يصعق لخيبته، ولكنه كان يقول: إذا مات الأمل جد أمل. بقي لي أن أذهب إلى القصر فقد يكونون في البيت الذي كان لهيلانة، وهو في معزل عن الجند والحراس. لم لا يكون كذلك! إن كان الرجلان قد عادا وليس لهما أثر في بيت أورست ولا قوزمان فلعلهما في القصر. لعل المقوقس قد أذن لحارسه أن يدخل بلمياء في بيت هيلانة. لعل ... لعل ... هلم بنا يا رجال إلى القصر الصغير.

ذهبو إلى باب لوكاس مسرعين، وكان لوكاس حارسه قد سمع صوت صياح وعويل ففتح الباب، وخرج إلى العراء يتسمع ليطمئن، وإذا هو يجد أعوان بطرس قادمين نحوه فدلف نحو الباب ؛ ليقفله، ولكنه ما كاد يلمس المزلاج؛ ليوثقه حتى دفعه بطرس ومن معه فسقط تحت أقدامهم بلا حراك.

صعدوا فلم يجدوا أحدا في الدار، ولكنهم رأوا باب الرواق مفتوحا فأموه، ووقفوا ينظرون إلى ساحة القصر فيما كان قد ظهر من نور الفجر، وهناك رأى بطرس أشباح قوزمان والحارث يسيران مع الأمير ولمياء وأمها وخالتها، ورأى ورقة يتقدمهم ورؤبة في أثرهم، ولكنه لم يعرف من هو؟ فهبطوا مسرعين نحوهم، ولكن الأمير كان في ذلك الوقت قد أدرك ما جرى عند باب القمر فأمر قوزمان والحارث أن يعجلا بإدراك المراكب بالنساء فبلغوها، وسار هو يحادث ورقة أنه يحسن - وقد حم القضاء - أن ينظر فيمن يبلغ القهرمانة الأمر عسى أن تتمكن من النزول هي ومن ترى فيما تجد في الميناء من السفائن الإمبراطورية. لم يكن ورقة يستطيع أن يفعل الآن شيئا فلم يجد غير رؤبة فأدناه، وأمره أن يذهب إلى القهرمانة - وكان قد جاءت إلى بيت هيلانة؛ لتحييها وتودعها - ويقول لها كلمتين بالرومية معناهما: «انجي بنفسك» فحفظهما رؤبة، وعاد ليصعد إلى بيت هيلانة، ولكنه ما كاد ينعطف؛ ليصعد السلم إلى البيت حتى رأى جنود الفرس في قتال مع حراس الرواق فعاد أدراجه يخبر ورقة بما وجد، والفرس في أثره، وقد أصبحوا الآن خمسة؛ إذ سقط نصفهم في العراك مع الحراس، وإن كانوا قد تركوا الحراس بين قتيل وجريح، وكان النسوة قد نزلن المراكب، واشتغل قوزمان والحارث بأمرهن، فلم يبق إلا الأمير وورقة؛ ليقاتلاهم قتال المهارة والشجاعة.

كان نيقتاس علما من أعلام المسايفة المشهورين بمقاتلة الجموع، ولذلك لم يهتم برجحان عددهم، والتفت إلى ورقة ينشطه، فقال له بروح المرح المستهين بالمخاطر: مرحى لورقة وأمير ورقة! هذا يومنا! أرني كيف تدافع عن لمياء! قال ورقة: وعن أميري. ثم هجم على منازله، وهو يصيح على عادته: يا رسول الله! والتحموا؛ فإذا الأمير يطيح برأسا وراء رأس كأنما هو يبري قلما، حين كان ورقة يتأمل عينا براقة في ظلام السحر كانت تصب عليه نيران ألف من صغار الحباحب . فأدرك على الفور أنه غريمه بطرس البحريني، وزاد يقينه بذلك حينما سمعه يقول: اقتلوا لي هذا. إنه غريمي، وما هي إلا لحظة حتى كان السيد البحريني مقطوع اليد مشطور الفك، وملقى على الأرض جاحظ العين واللسان معا. ضربه ورقة كما ضرب العملاق، وهي الضربة التي تعلمها من باقوم: ضربة من أدنى إلى أعلى تطيح باليد فإن قطعها السيف استقر صدره تحت الفك؛ فإما هشمه أو انحدر إلى الرقبة فقطعها، وهذا ما لقيه السيد بطرس، وكان الأمير قد لمح ورقة وهو في مواجهة خصمه، فلما رأى هذه الضربة النادرة المثال قال له في سماحته معجبا: مرحى! ستعلمني هذه الضربة عندما نركب السفن! اضرب ضربة أخرى مثلها؛ لأرى ثانيا كيف تكون! ولكنه لم ينتظر حتى يرى؛ بل سار إلى الميناء مطمئنا إلى العاقبة.

لم يبق من الخمسة إلا اثنان حاولا الهرب من حيث أتيا، ولكنهما لم ينجوا؛ فقد سقط أحدهما بضربة صرعته قبل أن يدري من أين جاءته؟ ولا من الضارب لها؟ على أنها جاءته من رؤبة. زعم أن في الحراس أحياء يكفون للمعونة فانسل كالصل إلى القهرمانة يخبرها، ولما عاد تلقى الرجل فقتله حين كان ورقة يجري وراء الخامس في هروبه، ولكن الرجل ألقى سلاحه، والتفت صائحا: الأمان يا ورقة! ثم جثا على الأرض، ورفع يديه ضارعا.

لم يعرفه ورقة أول الأمر، ولكنه تأمله ورأى أنه مسعد اليثربي الذي لقيه في معان. فقال ورقة: مسعد! قال: معذرة يا ورقة وغفرانا، جئت لك برسالة من سيدي أسعد بن زرارة، ولكن الفرس أخذوها مني، وضموني بالرغم مني إلى جيوشهم، وحملني إخواني من أهل مدين وتبوك على ذلك - وكانوا في جيش الفرس - وكان نصيبي أن أقاتلك وأنا لا أدري. اعف عني. قال: انهض عفا الله عنك، ولكن ماذا كان في الرسالة؟ قال: إن سيدي ابن زرارة لم ينس فضلك عليه، وإذ إن الخزرج والأوس اتحدوا واتفقوا فيما بينهم على الإسلام، ودعوة رسول الله إلى الهجرة إليهم ؛ ليعزوه وينصروا دينه ... فقد أرسلني لأستدعيك. قال: ارجع إلى بلادك بسلام مني إلى ابن زرارة وشكر، وخبره بما رأيت. قال: لا أستطيع العودة الآن. ليس لي راحلة. قال ابحث عن متجر التاجر أورست في حي رقودة، وخذ منه شملالتي فعد بها هدية مني إلى إياس بن معاذ، وخذ هذه الأمارة إلى رئيس المتجر وانصرف على عجل. ثم أعطاه الورقة التي كانت بينه وبين أورست، وقال له: إني راحل إلى القسطنطينية فأستودعك الله.

Unknown page