وإذ شعر ورقة أن أعضاء المجلس أخذوا يتوافدون أشار إليه أن يعود إلى بيت قوزمان حتى يوافيه هناك، وأخرجه من غير طريق الوافدين مشيعا بكل محبة وكل ثناء.
اجتمع المجلس وأنهى إليهم الأمير رسالة الإمبراطور، وأخذ يتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله إزاء استحالة تموين البلد بشيء من القسطنطينية فلم يهتدوا إلى رأي سريع، ولكنهم اتفقوا على أن يرسلوا سفنا إلى والي إفريقية (تونس) ليشتري لهم برا وغلالا، ويلتمسوا منه أن يجمع لهم من يستطيع جمعه من متطوعة البربر؛ لتعزيز الحامية، وخطر لأحدهم أن يجندوا من في الإسكندرية من اليعاقبة واليهود، ويجعلوا عليهم ضباطا من الروم، ولكن المجلس لم يستحسن ذلك قائلا: إنه لا أمان لهم فقد يتركون أمكنتهم على الأسوار، ويخلون للدبابات الفارسية مكانا هادئا يدخل الجنود منه. خير لنا ألا نفكر فيهم، أو نذيع أننا فكرنا فيهم خشية أن يتخذوا من ذلك دليلا على ضعفنا؛ فينشطوا للمؤامرات والثورات، وهي شر ما نخشى في هذا الوقت، أو يعلم به السلار فيقوي قلبه ويزداد عنفه، ولكنا نرجو من سمو الوالي أن يتجاوز لنا عن بعض زنوجه؛ لنعزز بهم الأبراج. قال نيقتاس بعد تفكير: خذوا كل حرسي منهم ومن غيرهم، ولكن اتركوا لي عشرة لحراسة باب الميناء، ومثلهم لحراسة الباب الشرقي من القصر لا يسعني غير هذا. سيكون هؤلاء تحت إمرة ورقة فخذوا ضباطهم كذلك، وسأكتب إلى والي تونس يجمع لنا متطوعة من البربر.
فشكر القواد للأمير فضله، ونهضوا ليدبروا ذلك، ويدبروا معه السفن الذاهبة إلى أفريقية، إلا أن الأمير استبقى أكبرهم، واختلى به، ثم عاد به يتحادثان، وفي يد هذا الضابط الكبير طومار لاح إنه ذو خطر؛ إذ كان مما يمنح عادة في التولية أو الترقية. حتى إذا انصرف الضابط وخلا المكان إلى من نيقتاس وورقة وأورست - رؤي نيقتاس يروح ويجيء في القاعة مفكرا، ثم وقف والتفت إليهما يسألهما: ألم يكلفكما الإمبراطور بشيء تبلغاني إياه غير ما في الرسائل؟ قال أورست: لم يطلب إلينا يا مولاي شيئا معينا، ولكنه أطلعنا على ما هو فيه من الضيق، وأبدى لنا استحالة إمداد الإسكندرية بشيء، وقال: إذا لم يساعدنا الله هنا فالقسطنطينية واقعة لا محالة في أيدي الفرس، ويحزنني يا مولاي أن أقول إن عينه اغرورقت بالدموع، وهو يقول: من لي بمثل نيقتاس يكون إلى جواري، إني لا أجد معي صديقا لي آتمنه أو أستشيره، ولكن ماذا أفعل وعاصمتي الثانية توشك أن تقع في يدي أعدائي. فلما سمع نيقتاس هذه الرواية أغرورقت عيناه بالدموع، وقال: اسمع يا ورقة، وأنت يا أورست. أنا أعرف أنكما متلهفان الآن على رؤية عروسيكما. هذا أمر فطري، ولكن ما قيمة التقائكما بالعروسين إذا كانت المدينة على وشك أن تقع في يد الفرس، أجلا ليلة زفافكما إلى يوم تطمئنان فيه. لم يبق عندنا من الجند ما يكفي للدفاع، ولو عرف السلار ذلك؛ لأقلع عن هذه الأحجار التي يرميها بغير طائل، ولهجم بجنوده على الأسوار مرة أخرى وعلاها. نعم، سيذهب نصفهم قتلى في الهجوم، ولكنه سيدخل الإسكندرية بالنصف الباقي بعد أن يفني الحامية كلها، وهذا ما لا بد أن ينتهي إليه أمره، ولذلك عولت على السفر خفية. إن الإمبراطور يبيح لي ذلك، بل إنه يأمرني به في صورة نصيحة؛ لأنه يريدني، وأنا أرى الخير فيما نصح، وهو يرى ليوحنا الرحوم هذا الرأي، ويلح فيه اتقاء لأذى أهل كنيسة الإنجيليون، فهؤلاء لا يهمهم من هذه الحرب إلا أن يروا بطريق الروم قتيلا أو مطرودا، وأنا لا أشك في أنهم يقتلونه وإن كان قد أحسن إليه. ألم يقتلوا سلفه! فقال ورقة: ومن يتولى أمر المدينة من بعدك يا مولاي؟ قال: رئيس الجند، وقد أسلمته الآن أمرا بذلك وتفويضا. اسمع يا أورست، إنك رومي فإذا بقيت في الإسكندرية فأنت قتيل وامرأتك سبية، وكذلك أنت يا ورقة وإن لم تكو روميا فأنت حارسي الأمين، وامرأتك وأهلك كلهم روم؛ وأخشى أن يقتلوا أو تفضح أعراضهم، وإذ أن أيام الزواج الأولى أسعد أيام المرأة فقد رأيت ألا أحرمهما هذه النعمة. قال أورست: أنرحل معك يا مولاي إن سمحت؟ قال نيقتاس: هذا ما أردت: والآن فاذهب إلى دارك هات كل مالك، وكل ما ترى نقله، ودع وكيلك فيما فيه من انتظار عودتك، أو فافعل ما ترى، ولكن اذهب إلى يوحنا الرحوم إنه صديقك، وبلغه عني دعوة الإمبراطور له، وقل له ينقل ما يحتاج إلى نقله معه الآن، ويأت به إلينا هذا إذا شاء، وسيشاء حتما. لقد خبرني برغبته في النقلة منذ أيام، ولا بد أن نرحل فجر هذه الليلة جميعا. إني إذا بقيت في الإسكندرية ليلة استعصى علي الخروج منها. لست من المتطيرين، ولكن النفس إذا انطلقت من إسارها كرهت أن تبقى في سجنها لحظة ولو كانت تملك الفكاك، وأنت يا ورقة، حذار أن تذهب إلى لمياء حتى آذن لك إني أريدك الآن. كل دقيقة غالية، ثم يكون لك ما شئت بعد ذلك. إن البحر هادئ هذه الأيام. أليس كذلك ؟ قال: لقد تعودته. قال: حسن لتكن ليلة زفافك في البحر إذن أنت وأورست. كل منكما في سفينة خاصة. أيرضيكما ذلك؟ قالا: ما أشد حمدنا لله عليك، قال الوالي: سأعد حمولي الخاصة وما يهم نقله، لا بد أن تكون معي، وإذا جاء أورست وحنا الرحوم فانقل كل متاعنا إلى السفن، وإذا سئلت فقل بضاعة للإمبراطور ستعود بها أنت وأورست. قال ورقة: ألا يحسن أن يجيء قوزمان بأولاده كذلك يا مولاي إلى بيت سيدتي هيلانة؛ ليكون قريبا؟ قال: عجبا. ألم أقل ذلك يا ورقة؟ فظهر على ورقة الإنكار فقال الأمير. زعمت أنني قلت لأورست شيئا من هذا؟ وإلا فكيف يرحل بدونها؟ قال ورقة: فليذهب أورست إذن إليهم وينقل حمولهم كذلك قال: نعم. نعم. على أن يجري الأمر سرا وإلا أثار بفعله الغوغاء. قال أورست: كن مطمئنا يا مولاي، سأكون عند حسن ظنك، إن منزلي يجاور منزل قوزمان فلن يلتفت الناس إلى شيء كثير، وسأنقل متاعنا في جوالق القمح فلا يلتفت إلي أحد. قال: إذن فاذهب من فورك.
ذهب أورست ودبر ما اتفق عليه بحذافيره، وفيما نيقتاس يهم بالصعود بورقة؛ لتنفيذ ما عزم عليه من جمع حمول السفر بدت على ورقة أمارات الأسف أن يضطر الأمر مولاه إلى ترك الإسكندرية. فسأله نيقتاس: فيم تفكر يا ورقة؟ قال: في سفرك يا مولاي، وترك عروس الدنيا لغير زوج كريم. قال نيقتاس: أجل، هذا ما يؤلمني، ولكنه أخف الضررين، إن العاصمة في خطر كما تعلم، والإمبراطور في ذهول، ويحتاج إلى مشير ونصير، ولاسيما على الأحزاب السافلة المنشقة عليه، والعاملة على ترك الحرب والاتفاق مع الفرس، ولكن الإمبراطور عزم على أن يجدد الحلف مع الترك كما فعل موريقس؛ ليغيروا على الفرس من وراء، ويردوهم إلى ديارهم. قال ورقة: هذا رأي حسن يا سيدي، ولعله يريدك لهذا قال: أجل. لذلك، وفيما هما يتكلمان لاح الحارس في آخر القاعة برقعة صغيرة في يده. فلما أذن له، وتناولها نيقتاس وقرأها تفتحت عينه دهشة، وقال لورقة: خذ. هذا لك. فيما أعتقد ، وإن لم يكن باسمك. فإذا هو كتاب من الحارث بن كلدة إلى الأمير نيقتاس يقول له فيه:
سيدي الأمير
حاولت مدى بضعة أشهر أن أدخل الإسكندرية؛ لأرى زوجتي هرميون بنت العالم قوزمان أخت امرأة أخيك هيلانة، وأرى ابنتي، وأكون معهما في هذه الضائقة فلم أوفق. حتى هداني الله إلى مينائك بعد جهد جهيد، ورجائي من الأمير أن يأذن لي بالدخول، وله جزيل شكري وعظيم ولائي.
الحارث بن كلدة
فدهش ورقة لهذا وقال: بضعة أشهر. إذن فرسول مولاي لم يلقه في جدة قال: ولا في مكة، وإنما التقى بولده الأكبر فأسلمه الرسالة، فما وقف على ما فيها حتى جمدت أصابع يده عليها ولم يقو على تركها، فأخذوها منه فإذا هو قد انشل، أهذا الذي أهدر دمك يا ورقة؟ قال: نعم يا مولاي، قال: لقد نال جزاءه العادل. قال ورقة: ألا ليلطف به الله، وليحسن إليه ويهده إلى الحق. إنه رجل شرير يا مولاي. كان يريد قتل رسول الله غيلة. فلما فضحت أمره بقتل القاتل أهدر دمي، فشردني عن بلادي وعن نبيي. قال نيقتاس: ولكنه هو الذي شرد لمياء وأمها كذلك، وجمع بينكما في الإسكندرية. لماذا لا تذكر فضل ربك في ذلك. قال: ما قمت للصلاة مرة إلا وذكرت فضل الله علي في ذلك وفضلك، وفي أني وجدت فيك أبا وسيدا، فكانت صلاتي كلها بقلبي وروحي. قال: أنت مني كولدي يا ورقة. ثم ابتسم، وقال: أتأذن لحميك بالدخول؟ قال ورقة: لا أدري أين يذهب؟ إن ذهابه إلى بيت قوزمان يشغلهم عن التحميل، وأرى أن يبقى حيث هو حتى نلقاه ويرحل معنا. قال: بل يأتي ويدخل بيت هيلانة حتى إذا انتهينا من تحميل الحمول دعوناه أو ذهبنا إليه، وستأتي إليه هرميون وابنته، وتكون إذ ذاك مفاجأة طيبة، وسأتولى الكلام معه فيما كان من تزويجي إياك ابنته، وأنا الضمين بموافقته ورضاه، بل وبالحمد لله على ما تم. أقلع عما أنت فيه الآن من الاضطراب فإني أكاد أسمع وجيف قلبك. قال ورقة باسما: شكرا لمولاي ، قال: خل عنك الشكر، واكتب لضابط المرفأ يأذن للحارث بن كلدة بالدخول بنفسه دون حموله. سيرحل معنا هو أيضا إلى القسطنطينية إذا شاء، وإلا فرحلتي جزيرة رودس، وهي أقرب إلى بلاد العرب من القسطنطينية. ثم نادى نيقتاس جندي الحراسة، وأمره أن يرسل إلى لوكاس حارس بيت السيدة هيلانة من ينبه إلى مقدم ضيف كريم، ويوصيه بإعداد الدار، والتفت إلى ورقة يقول: إذا أتممت الرسالة فأدركني في غرفي. ذهب الأمير، وجلس ورقة يكتب بطاقة الإذن للضابط بإدخال أستاذه، وأعطاها إلى الجندي الحارس، وهو لا يدري كيف كتبها؟ ولا ماذا كتب؟ فقد اجتمعت عليه كل هواجس الدنيا، وغاب عن وعيه بما ملأ فؤاده من الوساوس، وعاد إلى ما كان فيه من قبل من تصوير الحال لنفسه في صورته التي أصغرته في عيني نفسه، وقدر أن الحارث سيرضى تسليما بالأمر الواقع، ولكن عينه ستنم عن أسفه، واقتضاب كلماته سينم عن عتبه على ورقة كيف لم يساعده - وهو الابن البار - على الاحتفاظ بكرامته بين بني عبد الدار وجمح وبني مخزوم وغيرهم من بطون قريش الذين يعيشون على عرف بينهم من لم يرعه أسقطوه، ولم يذكر ورقة حق لمياء عليه في هذا، ولا ما قال من أن خير الخلق وسيد قريش سيبارك على زواجه، ومضى مطرق الرأس إلى غرف مولاه؛ ليكون في خدمته من إعداد حقائب الرحيل وصناديقه، وقد رأى ورقة أن يقول لأستاذه عند البادرة الأولى منه: يا مولاي، ما كان زواج ابنتك كله باختياري. إني أحبها حبا مقدسا ومطهرا، ولقد أراد الله الذي يعرف نجوى نفسي أن يمكنني من أن أقف منك موقف الولاء والرعاية، وها هي ذي ابنتك كما كانت معك في هدى ومكة ونجران، إن ضاعت حياتي على أثر تسريحها فما يهمني إلا أن تحسن الظن بي. ليس عندي للبرهان على عرفاني حقك إلا هذا. هذا ما فكر أن يقوله للحارس. أما ما قاله لنفسه فهو أن لا قيمة للحياة بعد لمياء، ولن يأبى عليه مولاه بعد هذا أن يتركه في الإسكندرية؛ ليدافع عنها بقدر ما يستطيع، ويموت مرتاح القلب. •••
جمعت قهرمانات القصر وخصيانه ما رأى الأمير حمله من الأموال والتحف والملابس والكتب القيمة وأضابير مراسلات الإمبراطور، ونقلت بإشراف ورقة وتدبيره إلى السفن الإمبراطورية بدعوى إبعادها عن الخطر، وكان أورست ويوحنا الرحوم قد فعلا مثل ذلك، كل من ناحية لم يلفتوا إلى عملهما أحدا، وهون الأمر على أورست أنه كان يملك عربات كثيرة لنقل غلاله، وكان له عمال كثيرون أخبرهم أنه يريد أن ينقل متاعه ومتاع نسيبه العالم قوزمان إلى مكان أمين غربي الإسكندرية تفاديا من ثورات القساوسة واليهود.
أما قوزمان وأهل بيته فقد جاءوا إلى المنزل الذي كان لهيلانة في القصر ومعهم ضيفهم الصغير رؤبة، وقابلهم لوكاس بتحية الولاء، وقد زعم أنهم هم الذين عناهم رسول الجندي الحارس حين طلب إليه أن يستعد للقاء ضيف كريم، فقال قوزمان: عجبي يا سيدي، لقد أرسل إلي سيدي الضابط ورقة يأمرني أن أعد الدار لضيف عظيم، وهل أنت ضيف يا سيدي؟ وظن قوزمان أن القول تمويه من ورقة فابتسم وقال: كيف لا يا أخي لوكاس! ألا تدري أن صلتنا بهذا القصر قد انقطعت منذ أصبحت سيدتك هيلانة زوجة للسيد أورست نائب المدينة وكبير تجار الغلال فيها! فبهت لوكاس، وقال بعد صمت قليل: مبارك يا سيدي. مبارك. إنه والله لرجل عظيم كثير الخيرات. نعم يا سيدي هو يستحقها. إيذن لي أن أذهب لأهنئها. نعم، لم يكن في الدنيا أطيب قلبا، ولا أكرم نفسا من سيدي تيودور، ولكن ما حيلتنا في إرادة الله. ليس علينا إلا أن نتقبل المقدر بالصبر وبالرضا كذلك إن أردنا أن نكون مسيحيين حقيقيين، ودخل لوكاس يقدم تهنئته الحمية إلى هيلانة.
Unknown page