وسيحميكم أنتم أيضا، ويكون لكم من الشأن بقدر ما لغيركم لا أكثر بذرة ولا أقل بذرة. أم تريدون يا حضرات القساوسة والرهبان أن يجعل كسرى جيوشه تحت أمركم توجهونها في مصلحتكم إكراما لذواتكم الطيبة. انصرفوا في إكرام وتحية.
انصرفت ذواتهم الطيبة حزانى لخيبة أملهم البالغة، ولكن أحدهم قال لهم: بل أنتم قد نلتم منه الأمان لأنفسكم ولدينكم؛ وإذ لن يبقى في مصر من أتباع مذهب الروم إلا نفر قليل فسيكون دينكم هو الأعلى، ومن الواجب أن تعودوا إلى الدير مغتبطين، وتتظاهروا بالمسرة والحبور حين تعودون إلى الدور؛ لئلا يشمت بكم من لم يروا رأي أسقف نجران في الخروج إلى السلار.
فوافق الجمع على هذا الرأي، ولكنهم لم يشرعوا في الترتيل والإنشاد حتى دنوا من الدير الأعظم، غير أنهم كانوا ينشزون «تنشيزا» قبيحا؟ من فرط ما كانوا فيه من الغم، ولذلك أقلعوا عن الترتيل قبل أن يصلوا إلى حظيرة الدير، وضاعت عليهم التقفيلة البديعة التي كانوا قد نظموا خطواتهم عليها؛ ليدخلوا بها الدير العظيم دخول الفاتح المنتصر!
أما السلار شاهين فأخذ يحاسب نفسه على تلك الكلمات المرة، ويقول: تراني أسأت في هذا اللقاء، وقلت لهم ما كان يجب أن أقول سواه؟ ولكن هل كان يجمل بي أن أكرمهم، وأنا أمقت هؤلاء الناس وأمثالهم في كل أمة، وأعتقد أنهم أفسدوا العقائد الطيبة وأفسدوا الشعوب، وأسلموهم للأذى المستمر! ثم هل كان لي أن أقول ما ليس في نية كسرى السير عليه في حكم هذه البلاد! إنه تسامح مع جميع الأديان، وأذن لأهلها أن يعيدوا كنائسهم وبيعهم، وضرب على أيدي اليهود ضربة ردت كيدهم في معاهم.
8
هذه هي السياسة الحكيمة، وسأجري عليها في مصر إذا قدر لي فتح هذا الباب المستعصي، وبقيت واليا عليها، وإذا قدر لي أن أستقل بملك مصر - وهو ما أؤمله - فأول ما يجب علي أن أريح هذا الشعب المهيأ لكل عظيم من سلطة رجال الدين عليه، وثاني أمر أفعله أن أدله على أن الكرامة الصحيحة هي كرامة العقل. فما دام العقل حرا يفكر تفكير الراشدين، ويحكم حكم المنطق ويلتزمه ولا يقبل سواه من أحد - فلن يغلب، ولن يفرط في أوطانه كما رأيت، ولن يفرحه أن يجيء ظالم جديد محل ظالم قديم. كل ما في هذه البلاد من ضعف الهمة، وقلة الشعور بالكرامة الوطنية - مرجعه أولئك المرتلون، وما يوقرون في عقول الناس من ساعة أن يولدوا ، بل من قبل أن يولدوا: وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام أمهاتهم إلى حين يوارون القبور؛ من عقائد تنبو بهم عن الدنيا، وتهون عليهم ذلة الحياة وظلم الحكام، ويوقرونها في نفوسهم في كل ظرف، ويوقرون معها الذعر من تحكيم العقل والمنطق والتفكير الصحيح فيها، ولذلك ينشأون أبعد ما يكونون عن الكرامتين؛ كرامة العقل، وكرامة الفعل.
إذا أصبحت ملكا على مصر فسأعيد دار الحكمة التي أوصى ببنائها أستاذنا أستاذ الراشدين أرسطو، وكان لمصر بفضلها فضل أعظم على العالمين؛ فإن إسقاطه نظرية الروح أم الشرور والأراجيف لم يترك مجالا لفلسفة ما وراء الطبيعة الكاذبة المدلسة، ولم يمكن الذئاب من أن يدعوا العلم بها، ويقيموا أنفسهم ولاة وكهنوتا وقساوسة، ولكن وا حسرتاه جرى عليها ما جرى على كل شعب يترك كرامة العقل ليعلق بالأراجيف والأوهام فهدمها الذئاب ليقيموا بدلها حظائر للشياه. سأعيدها وأصونها، وأمنع أيدي العبث عنها وعن ديار مصر بلا أقل تسامح. سأعمل على نشر عقيدته الراشدة؛ لأرد إلى هذا الشعب كرامة الأرومة العربية التي أفسدتها القساوسة والكهنة في هذه الأرض.
ثم التفت إلى أسور الإسكندرية وإلى مجانيقه تدقها وترتد عنها. فقال: هيهات أن يتحقق هذا الحلم، وهذه الأسوار تهزأ بقواي منذ حاصرتها، وهم لا يشعرون بحبس الطعام عنهم والخبز ما دام البحر معهم يأتيهم بخيرات ما وراءهم من بلاد الروم، وفيه غذاء لا يفنى، وها هي ذي سفائن الصيادين مجدة في اصطياد خيرات البحر بالشباك فتمونها، وتلك تأتي إليها بما تريد من غلال. أما الخضر ففي كل بيت بستان، وتحت كل بيت صهريج قدر البيت نفسه، بيد أن مطر هذه البقاع غزير فهي في غير حاجة قصوى إلى مياه النيل؛ سيطول الحصار إذن وستطول آلامي. ثم تأوه ودار على عقبه يلتمس خيمته، والهم يملكه من كل جانب، وإذا هو يرى على مدى غير بعيد منه رجلا في زي الصيادين يتسلق الصخرة التي كان فسطاط السلار منصوبا على ساحتها ويعلوها.
ولمحه الحارس فجرى نحوه رافعا سيفه وهو يقول: مكانك يا رجل! من أنت ؟ فأجاب الرجل صديق للسلار، ثم رفع يديه برهانا على أنه لا يريد أذى، وكان السلار قد رآه فوقف ليتفحص حاله، ولما رآه مأمون الجانب قال للحارس: أطلقه، ثم كلمه بالرومية إذ كان السلار يعرفها، يسائله عن نفسه وفيم جاء؟ فرد عليه الرجل: إنه جاء ليسدي إليه خيرا، قال: لا خير تسديه إلا أن يفتح لي هذا الباب. قال: وأنا جئت لذلك. قال شاهين: لخدمة دينك؟ قال: لخدمة دنياي. ما لي وللدين. أنا رجل يا سيدي مثلك ومثل كل ذي مطمع في الحياة. قال حسبتك قسيسا فإن هذه الملابس ملابس الذين كانوا عندي الآن يرتلون وينشدون، يريدون أن يقنعوني أن الترتيل يفتح الأسوار. لا. لا يفتحها إلا تراتيل المجانيق بأصواتها المنكرة، أو همس الهامسين بأنفاسهم المخبرة، فبأي هذه الآلات تؤمن؟ قال: لكل عهد إيمان، وأنا أومن اليوم بالثانية، هي أفعل وأسرع وأنجع. قال: هات. هات، واطلب ما تشاء. ما اسمك يا صاحبي أولا؟ قال: اسمي بطرس البحريني؛ كنت شماسا، وتركت هذه الحرفة، ولكني رجل أخدم العلم، ولقد كنت أعمل من قبل أن تجيئوا على تهوين الفتح عليكم، فقد لقيت إسحاق بن مرداس اليمني حين جاء هو والحبر لتدبير ثورة في الداخل تعينكم على فتح الأبواب من الخارج، ولكن تدبيرنا لم يكلل بالنجاح. قال السلار: أعرف كل شيء فكيف تخدمني؟ قال: أفتح لك «باب القمر». قال السلار مشدوها وبه نهزة الفرح: تفتحه! قال بطرس: أفتحه بلا كبير عناء. قال: لعمري لو فعلت لأملأن زورقك مالا. كيف يكون ذلك؟ قال: أما المال وإن كان عصب الحياة فلا يهمني. أمر آخر لا يكلفك شيئا مطلقا وهو كل شيء عندي. قال السلار: امرأة وربي. قال بطرس: أجل وربي امرأة، تعطى لي سبية؛ لتكون لي زوجة بالحلال. أنا لا أريد أن أسيء إلى من أحب. قال السلار: ليكن ذلك يا بطرس، ومعها ملء جيوبك وقلنسوتك دنانير. هذا عهد السلار شاهين يقطعه على نفسه باسمه واسم كسرى ملك الملوك ، وإذا فتحت الباب فخذ من تشاء من جندي ؛ ليكونوا تحت أمرك، وليستولوا لك على بيتها وعليها، وعلى من تشاء فيه. قال: شكرا لمولاي السلار، وهاك المفتاح: أنت تعلم أن للإسكندرية غير أبوابها أبوابا على البحر، منها باب ميناء قصر الحاكم الرومي، ومنها باب ميناء الخليج الذي يأتي من النيل ويدخل الإسكندرية من جنوبيها. قال: نعم، قال بطرس: هذا الباب يخرج منه الصيادون، ويعودون بالسمك؛ لبيعه في حلقة عند ملتقى الخليج بشارع كانوب الذي يقطعه آتيا من باب القمر هذا إلى باب الشمس ذاك في شرقي المدينة. قال السلار: علمت ذلك، قال بطرس: وهذه الحلقة قريبة من باب القمر لا تبعد عنه إلا مرمى السهم أو أكثر قليلا. قال السلار: أعرف ذلك. قال بطرس: ولكن الصيادين إذا خرجوا بمراكبهم لا يملكون أن يعودوا في الفحر إلا إذا أعطوا الحراس هذا الباب كلمة السر، وكلمة السر هذه كما يعلم مولاي السلار تجدد كل ليلة. قال السلار: هل عرفتها؟ قال بطرس: أعرفها اليوم يا سيدي، وبها تستطيع أن تدخل الميناء الليلة عينا إذا شئت أن تنتهز فرصة مرض صاحب المركب، فإني لا أضمن أن يظل على مرضه في الغد، ولا أضمن أن أتمكن من المجيء إليك كما جئت اليوم. قال السلار: وماذا تريد مني أن أفعل؟ قال بطرس: تعد أربعين رجلا من رجالك الأشداء في زي صيادين يحلون محل رجالي الذين صرفتهم الليلة عن الصيد بدعوى مرض رئيسهم، حتى أدخلهم الميناء وأمر بهم إلى الحلقة. من هناك يذهبون أشتاتا إلى باب القمر فيقتلون حراسه ويفتحونه، وتكون قد أعددت جيوشك للدخول فيدخلون بلا أقل عناء.
9
Unknown page