145

فرح الوكيل به فرحا عظيما، وأنزله هو وصاحبه مكانا مكرما، ولكن الحارث لم يرض أن يظل عالة على أهله بلا عمل حتى يرى نتيجة ما كلف به الضابط الرومي؛ بل أخذ في ثاني يوم يتولى هو ونعيم تطبيب مرضى الدير، وكذلك كل من كان يجيء من الجيرة يستطب برقى رهبانه وتعاويذهم، وظل على هذه الحال مدة طويلة لم يرد إليه في غضونها ما كان يؤمله، ولا عرف كيف يدخل إلى الإسكندرية؛ إذ كان جند الفرس معسكرين حول أسوارها، ومنتشرين في أرباضها، ومحاولة الخروج للنظر واستكشاف الحال ضرب من المجازفة بالحياة والكرامة معا. فاستمر في الدير في انتظار وسيلة يأتي بها القدر.

ولكن هذه الوسيلة لم تتهيأ له على عجل كما كان يؤمل؛ إذ كانت أبواب الإسكندرية مقفلة بسبب الحصار فاضطر المسكين أن يقضي شهرا آخر في ضيافة الوكيل.

هناك علم الحارث من وكيل الدير وحلقته أن الجيوش التي تحاصر الإسكندرية هي نفس الجيوش التي فتحوا بها القدس، وأن الكثرة فيها من عرب شمالي الجزيرة العربية

3

والقلة من الفرس، وأن السلار شاهين قائدهم الأعظم أحاط الإسكندرية بمجانيق عظيمة تلقي جلامد الصخر على الأسوار، ولكنها لا تفعل بها شيئا يذكر، بل ترتد عنها مهشمة كما ترتد كرات الصبية على ملقيها، وأن بعضها وقع في بعض أبراج كنيسة القديس مرقس القائمة بالقرب من السور الشرقي، ولكنها لم تبلغ منها مبلغ الأذى الكبير، وعلم أنهم أتوا بقواذف للنيران تحمل كتلا مغمورة في النفط والكبريت، وتلقيها فيما وراء الأسوار، ولكنها لا تقع إلا على فضاء معد في الإسكندرية لمثل ذلك، وأتوا بدباباتهم العجيبة بل الصروح العالية المتحركة على عجل ملأى بالمقاتلة والسلاح أملا أن يستطيعوا تقريبها من الأسوار ويركبوها، ولكنهم ما فعلوا بها شيئا فقد كانت تزمجر بآلاتها وتخور؛ فتجيبها من أسوار الإسكندرية المنيعة الهازئة رعود وبروق وصواعق من صخور ونيران تفتك بهم فتكا ذريعا فيضطرون إلى الارتداد عنها والعودة إلى مضاربهم؛ ليحاولوا الأمر بجهد أشد في يوم آخر، ولكنهم ما كانوا يظفرون في اليوم الآخر بأكثر مما ظفروا في الأول.

كانوا شجعانا أشداء معودين النصر والغلب، وقد هدموا جميع أسوار الحصون في الشام وأرمينية، وكان آخر ما فعلوا هدمهم أسوار أورشليم وامتلاكها، ولذلك كانت خيبتهم في كل محاولة، شديدة عليهم محنقة لهم، ولكن جيوشهم في الشام والقدس كانوا في أكثرهم من عرب الجزيرة الأشداء يقاتلون روما فتت الحروب والهزائم في أعضادهم. أما هنا فيحاربون أقلية رومية تعتز بأكثرية عربية جمعوها من بلاد لوبيا في الغرب وسينا في الشرق وزنوج لا يعرفون هوادة ولا يفترون. كان هرقل قد استنفد غالبية العنصر الرومي الإسكندري في حروب هجومه على القسطنطينية أيام حارب فوقاس، وفي دفاعه في أرمينية؛ ليستردها من كسرى أبرويز، فالحرب في جوهرها حرب بين عرب وعرب تعززهم في الإسكندرية أقلية من الروم وفي خارجها أقلية من الفرس.

من أجل هذا الفشل الذي منيت به جيوش الفرس أمام أسوار مدينة الإسكندرية المنيعة أبد ثمانية أشهر زعم صغار الأحلام من السكان واللاجئين إلى عشرات الأديار القائمة في أرباض الإسكندرية من يعقوبية ورومية أنه يحق لهم أن يتمتعوا بالسخرية بجند السلار شاهين، وهم مارون بأديارهم أو جالسون يستريحون في ظل جدرانهم، ولذلك لم يترددوا أن يسقطوا عليهم من الكوى المقفلة كلمات السخرية بهم وبإلههم ميترا. فانصرف الجنود عن أسوار الإسكندرية السميكة الراسخة إلى جدران الأديار الرقيقة المتزعزعة؛ ليهدموها، ويؤدبوا الساخرين منهم بما لدى الفرس من وسائل التأديب والانتقام مع فرط الاحتقار.

هذا ما علمه الحارث، وما رآه يوم أن فاض به الوجد؛ فاستقر به الرأي على أن يحاول الوصول إلى الإسكندرية بطريق البحر، فخرج قاصدا إلى ميناء لوكياس - ميناء القصر - عسى أن يلقى فيها ضابطا من ضباط الأسطول سمح الخلق يرضى أن يسير بكلمة منه إلى الأمير؛ ليسمح له بالدخول، وما كان يشك في قبول الأمير رجاءه؛ لأنه كان معروفا لديه بأنه عديل أخيه تيودور زوج هيلانة ابنة قوزمان، وكثيرا ما اجتمع به حينما كان يرافق قوزمان في زياراته له؛ إذ هو نسيب، وإذ هو عميد معهد العلم الإسكندري، وقد كان الحارث يفكر في هذه الوسيلة من قبل، ولكنه امتنع لسببين؛ أولهما: أنه كلف الضابط الفيومي لقاء قوزمان، وثانيهما: أن الطريق ملآن بجنود الفرس، ولن يرعى الجند أيام الحرب حق أحد أو كرامته، والطريق في البحر كالطريق في البر مصون بكشافة الأسطول الرومي، ولا بد أن يظنوا أنه دسيسة أو جاسوس، فيؤذوه، وربما قتلوه قبل أن يستبين لهم أمره.

فلما لم يظهر أثر لسفارة الضابط الرومي - إذ كان في الواقع قد قضى نحبه ثاني يوم دخوله الإسكندرية في هجمة كانت للفرس على أسوارها - وطال الانتظار قصر حبل الصبر من الحارث، وعزم أن يجازف، ولكن وكيل الدير لم يرض له هذا حتى يدبره على وجهه أنفي لشرور في الطاقة تجاوزها؛ ذلك بأن يركب الحارث وصحبه إحدى السفن الشبيهة بسفن الصيد، وينضم باسمه إلى الصيادين إذا خرجوا في العصر إلى البحر الأعظم، وينزلج إلى ميناء لوكياس. نعم، إنه لن يلقى هناك من رجال الأسطول برا سريعا، ولكنه يتفادى بعمله هذا إحدى العقبتين بل العقبة الكبرى، أي نواظير الميناء الغربية، الذين يتعاملون مع الجمهور فهم لهذا شديدو الحرص، شديدو الارتياب في كل إنسان، ومحال أن يأذنوا بمرور أحد لا يكون ممن يسمح لهم بارتياد البحر، وهيهات أن ينجو الحارث من سوء ظنهم وعقابهم العاجل مهما كان بريئا.

التمسوا الوسيلة إلى ذلك، وكتب وكيل الدير بخطه وخاتم الدير شهادة بأن الحارث غريب جاء يلتمس أهله في الإسكندرية، وأنه من ذوي الصلة والقرابة بسمو الأمير، ورجا ممن يطلع على كتابه من اليعاقبة أن يساعده على بلوغ ميناء لوكياس، وخرج الحارث ونعيم وزياد في السفينة على نحو ما دبر الوكيل، وكانت الرقعة التي كتبها قمينة بتحقيق تدبيره على وجه أكمل.

Unknown page