نفخة من روح الله، وأنه عبده ورسوله بعثه رحمة للعالمين. أما أنه ابن الله أو أنه إله فلا. فغاظه هذا الكلام، وسأل ورقة: وأنت تدين بهذا؟ قال: وأدعو إليه يا سيدى، قال: أنت كافر يا بني بديننا فكيف نزوجك منا! قال نيقتاس: ليست العروس منا أيها السيد البطريق، إن أباها مثله عربي: الحارث بن كلدة الطبيب الذي تعرفه، قال: حقا، فما دخل الكنيسة إذن في هذا الزواج؟ لا هو من ديننا ولا هما من قومنا. خير له أن يتزوج على ملة أهله! قال ورقة: هذا ما أردت يا مولاي، ولكن مولاي الأمير أراد أن يخصني بفضله في أن أظفر بدعاء مولاي البطريق وبركته. قال: أعفني يا بني، إني لا أدرى كيف أدعو لكافر بربوبية المسيح أو أبارك له زواجا. قال: ادع لي كما تدعو لجوادك. قال: ولا هذا يا بني. ثم نهض على نية الخروج وورقة يقول: شكرا لمولاي البطريق إن الإنجيل يأمر أهله أن يحبوا أعداءهم، وكنت أولى بمحبتك؛ لأني لست عدوا لك. قال: أنا أحبك حبا عظيما جدا، ولكن الحب شيء، والدعاء لك شيء آخر. ثم مضى يحاول ستر غضبه المزدوج من نيقتاس؛ لإيوائه كافرا، وما كان من رغبته في أن يعقد له على حفيدة قوزمان، وخرج بعد أن ودع وداعا صوريا جافا.
عاد الأمير إلى مقره يقول لورقة: تعال خبرني ما سر هذه المداورة. أما إنك أغضبت الرجل فلا يهمني. أنت تعرف أنى أكرهه، وأكره كل البطارقة والقساوسة الذين في العالم، وكذلك كل من يجعل له بالدين سلطانا على الناس بالمنح والمنع والحرمان. أريد دينا لا إكليروس فيه، ولا دخل لكاهن في أمور أهله. قال ورقة: هذا دين الإسلام يا مولاي، دين يقول: إن الله واحد. يسوي بين الناس، ويجعل الملك في الأصلح المختار من أعيان أهله، ويصل بين الناس وبين الله مباشرة بلا واسطة من قسيس أو كاهن أو بطريق، فليس له من هؤلاء أحد. ثم هو يحرم الرهبنة، ويلغي الإكليروس. قال: هذا نعمة يا بني. إنه فيما أرى يزيل كل ما نشكو منه في هذه الأرض من البغي والعدوان باسم الدين. إن العالم في حروب رهيبة بسبب اختلاف الدين، والإكليروس هم الذين يدفعون الملوك إليها، والملوك يدفعون الشعوب المسكينة , فإذا خلصت الدنيا من سلطان المتزعمين بالدين حقنت دماء الشعوب. اسمع يا ورقة: سينتشر هذا الدين الذي ذكرت لي أؤكد لك، وسيكتسح كل ما سبقه من العقائد؛ لأني أراه بغية كل قلب، وإذا هيئ لك أن تجتمع بالإمبراطور
4
فخبره عنه كما خبرتني فسيسر له. إنه كما رويت لك مثلي: له مذهب خاص؛ فهو يكره هذه الفروق بين اليعاقبة والملكانيين، ويكره الإكليروس، ولو تهيأت له الفرصة؛ لنسخهما، وأتى بمذهب جديد.
5
ليته يأخذ بمذهب ابن عبد الله، ولكنك لم تفدني عن سر رغبتك أمس في إعفائي إياك من الزواج بلمياء، ومن فرحك بالرحيل إلى القسطنطينية، وما فعلت من إغضاب الرجل عليك. إذا أقنعتني ساعدتك، وإلا فلا بد لي من إتمام ما استحضرت قوزمان وبناته من أجله. قال ورقة: إن الحارث بن كلدة أستاذي يحبني حبا يقل في وصفه حب الوالد ولده، وحبي إياه حب الابن العارف بالجميل الذي يفتديه من أهون سوء بروحه، ولو ملك الحارث أن يزوجني من لمياء ما تردد؛ بل لسعى إليه، ولكنه من سراة العرب، ويخشى المعرة أن يقال: زوج الحارث بن كلدة ابنته من فتى لا نسب له. فأبي كان نجارا من أهل هذه البلدة كما علمت يا مولاي، وأمي كانت سبية، وإن وفائي لأستاذي وتقديري لحاله ليمنعني من أن أستغل حب لمياء وأهلها لي، وأستعين بعظيم جاه مولاي في تحقيق أمنيتي. قال نيقتاس: فإذا رضي الحارث مثلا. قال: إن رضاه يقرب مسافة الخلف، ولكنه لا يجمع بيننا. قال نيقتاس: كيف ذلك؟ قال: سيكون مضحيا من أجلي، وهل يجمل بى أن أقبل تضحية من أستاذي. إني إن فعلت كنت كمن يضحي بأبيه، وما أشد هذا على نفسي! قال نيقتاس: أما إنك قديس يا ورقة فمما لاشك فيه، ولكنك قديس أناني. فشده ورقة وقال: أناني يا مولاي! قال أجل. إنك تخشى أن تتهم نفسك أو يتهمك الناس بقبول ما تسميه تضحية من غيرك لك، وما هو كذلك لأن لها عوضا عظيما من جانب آخر، وتنسى أنك تضحي بغيرك وتقتله بلا أقل رحمة ولا أقل عوض. فقال ورقة: ما هذا يا سيدي؟ قال: أنت نسيت حق لمياء في هذه الملحمة. لقد حملتها على حبك. قال: كلا وربى يا مولاي. قال: بلى. قد يكون حسن الأدب وكمال الخلق، ولطف المعاملة، ووسامة الخلقة، والرجولة، وكل ما يجب أن يتصف به الرجل - ذنبا للرجل من حيث لا يدري.
6
أنت عشقتها فيك بهذا، وما هي بقديسة مثلك. هي امرأة، والمرأة هي الإنسان المعقول تصرفه في هذه الحياة، الذي لا ينظر إلا إلى جانب الحق الصراح من الأمر لا الخيال ولا الوهم. هي الصواب، وهى ترى أن تكون لها وتشتهيه ولا تهمها أراجيف العادات السخيفة التي روجها الأنانيون لأنفسهم كبرا وادعاء وإنك لمتناقض في دينك. ألم تقل لي: إن نبيك سوى بين الناس! ماذا بك من عيب؟ من أنا؟ ومن هرقل؟ ومن أكثر ملوك الأرض؟ قطاع طريق في أصلهم ونسبهم وجميع أفعالهم، ولا يزالون كذلك: لصوصا وقطاع طريق. أما أنت فمن أبوين شريفين، بل من أشرف أبوين. لقد ذكرت لي هيلانة قصة أبويك، ولمياء أحق منك برعاية والدها. إنما يرعى الوالد ما ذكرت من أجل أولاده، وهاهي ذي ابنته تنزل عن هذا الحق من أجلك - إن كان هناك نزول- لتكون لها، وأنت تأبى إلا أن تخجلها من نفسها، وتكسر قلبها؛ لتحيي قلبك وقلب الحارث. يا للأنانية والجور، وإقرار المظالم! لا. لن أقر جريمة كهذي، سيكون زواجك الآن! وإن كنت مسافرا. أريد أن أحفظ على لمياء قلبها، وأكافئها على حبها، وأمانتها وشجاعتها وعقلها.
ثم صفق نيقتاس، وأمر الحارس أن يرجو من السيد قوزمان وأهل بيته القدوم . فلما انصرف قال: وسأكتب أنا للحارث في ذلك، وأنا الضمين لك برضاه. إنه في مكة أليس كذلك؟ قال: بل في جدة يا مولاي، قال: هذا أهون، بل لماذا لا يأتي! سأرجو منه الحضور. فقال ورقة: ألا تنتظر يا مولاي حتى يجيء الحارث من مكة وتحادثه. قال: لا أنتظر. لماذا أنتظر؟ إن من عادتي أن أنفذ الأمر على الفور ما إن تبينت وجه الحق فيه. ثم أرى ما يجد بعد ذلك. أما الانتظار الذي يسميه بعض الناس حكمة وحسن نظر، ويأتون على صوابه بألف دليل من سيئات العجلة، فاعلم أن هذه الأدلة هي عقاب التلكؤ. زواجكما واجب، واجتماع قلبيكما حق، فمن العدل والحزم عقده على الفور. بل التعجيل به أوجب؛ لأنه أمر غير عادي يتطلب معالجته بعمل حاسم. أما إذا أنا رضيت أن أؤجل تنفيذه إلى ما بعد ورود رأي الحارث، فقد نزلت عن يقيني بصواب رأيي فيه، وأسلمت الأمر إلى ذي هوى أو متورط لا يملك فضيلة الحكم متجردا. إن حكم كما حكمت أكون قد أنفقت زمنا في غير طائل، وإن حكم بغير ما حكمت أكون قد امتهنت العدل بالتماسه من المتهم، وهو الحمق كله. لم يبق إذن إلا أن أعقد العقد.
فانحنى ورقة يقبل يد الأمير من فرط فرحه لولا ما كان يتجاذبه من عواطف الخجل من أستاذه؛ لأنه كنا يشعر كأن يأخذ شيئا من وراء صاحبه، ولكنه في الواقع كان يرى في سفره إلى القسطنطينية فرصة؛ لمعرفة رأي الحارث قبل أن يعود منها، فهو إذا عقد له على لمياء كان سفره وسيلة لتأجيل يوم الدخول بها حتى يرجع، فإن كان جواب الحارث بالرضا - وهو ما يرجوه - لم يعر ما وراءه شيئا من همه، وإلا فما العقد بشيء عصيب وإن قطع نياط قلبه وأسلمه الأمر إلى الوجد والجنون. ثم تذكر ما قاله نيقتاس من حب لمياء إياه، وأنها تؤثره على الدنيا وعلى أبيها، وتؤمل فيه أن يؤثرها على نفسه وعرف قريش ، وأنه بما انتوى إنما يخون ما تؤمله فيه من رعايتها ولو أدى الأمر إلى شيء من التضحية، وهو شيء جديد لم يكن قد خطر له على بال، فوجف قلبه وخجل منها، وأحس أنه لم يعر أمنيتها تلك شيئا من تقديره، ورأى قدر ما تفعل بإيثاره حتى على رضا أبيها، وتذكر فتى نجران من بني عبد المدان، وفتى مكة من بني عبد الدار، وفتى مناف ابن حاكمها، وأنها تركتهم كلهم رعيا لذكراه، فعلاه الخجل من نفسه، وصاح قلبه: بأبي أنت وأمي يا لمياء، سأكون لك على الدنيا كلها. إن الحق فيما قال نيقتاس وفيما قلت بما فعلت. إلي. إلي. سيبارك زواجنا سيد قريش وسيد الخلق أجمعين. فماذا يهمني من بني عبد الدار وبني جمح الذين لا يزالون لحمقهم وفساد رأيهم يعبدون الأصنام! ويريدون أن ينحروا أمثالنا على قدمي وثن من عرفهم الممقوت، كما ينحرون البدن على الأنصاب الصماء.إلي. إلي. إن الله يبارك لنا، والراشدون شهود على الحق فيما نحن في صدده، فماذا يهمنا من السفهاء!
Unknown page