في صبيحة اليوم الموعود كان ورقة يسير بهيلانة إلى أيلة بعد أن ودع اليثربيين الثلاثة وأكرمهم جميعا، وحملهم الرسائل التي أعدها لأصحابه وأهله، ونقل إليهم جميعا فرط شكر الأميرة - وقد ظلت في اعتقادهم أميرا جريحا - ودعواتها الخالصة لهم.
وفي صبيحة اليوم الرابع كان يسير بها في قافلة عظيمة اتخذت درب الشعوى طريقها إلى القلزم (السويس).
كانت القافلة مؤلفة من أخلاط من الناس على مثل ما شهد في بطاح يثرب ومعان، جاءوا من أدنى الشام وأعلاها، ومن شرقيها وغربيها، بين روم وشاميين، فارين بأنفسهم وبأولادهم من ويلات الحرب في تلك البقاع منهم الثاكل والمحزون، ومنهم المحروب والمغلوب. جاءوا في الصحراء من القدس وقيصرية وبصرى وغزة إلى أيلة وغير أيلة قاصدين مصر من غير طريقها القريب منهم - طريق رفح والعريش والفرمة - لعلمهم أن الفرس كانوا قد استعدوا لفتح مصر، ويوشكون أن يسيروا إليها من ذلك الدرب فتركوه، وصعدوا في الصحراء، وعطفوا على بطرة، ومنها إلى أيلة؛ ليخترقوا صحراء سيناء إلى القلزم من طريقها هذا القصير.
اخترقت القافلة درب الشعوى في اتجاه الغرب لم تمل عنه يمنة ولا يسرة إلا فيما كانت مضطرة إليه من تفادي جبل أو التماس بطحة على أنها لم تلق في هذا الدرب ما اعتادت أن تلقاه مثلها من الوعث والمشقة؛ إذ كان طريقها معشبا كثير المياه والأودية، كثير المباءات والمنازل، ولذا عد الركب أيامهم في سيناء نزهة مباركة، وعلامة طيبة على رضا الله الذي أنقذهم من أذى الفرس واليهود ومسترزقة العرب.
بلغوا القلزم على الهوينا في ستة أيام، وبلغوا بلبيس في يومين، ونهضوا في اليوم التاسع قاصدين أثريب.
ولشد ما كانت دهشة ورقة حين كان يخترق حقول مصر ومزارعها فلا يرى على جانبي الطريق إلا خضرة، ومياها وماشية وأنعاما، ورزقا غير منقوص، وكان الجو في أوائل كيهك (نوفمبر-ديسمبر) قرا جميلا منعشا، والشمس دفيئة كريمة، تسطع على البقاع فتجلو جمالها وتمنحها رونقا، وتكشف للعين دقائق فضل الله على هذا البلد الذي جعلت الأمم القوية حيازته علامة استكمال مجدها، وبلوغها سدرة المنتهى في الحياة الدنيا، وهيلانة في أثناء ذلك مغتبطة بما تسمع من ورقة من أحاديث عجبه، معقبة عليه بما لديها من أخبار ما يمران به من البقاع في عهدها القريب، وكان الجرح قد أمعن في الالتئام، فارتدت إليها العافية، وزها وجهها بنور الصحة، فلاحت بين تلك الخضرة كالزهرة الحالية الأنيقة تلقي عليها من جمالها الفتان جمالا تبدو فيه كأنما هو بعض نضرتها؛ ذلك حينما كانت تنسى همها في جوار صديقها ورقة، وفيما كانت تجده من اللذاذة بالحديث معه عن مصر وفتنتها، وما تستشعره من نشاط نفسها لدن تقديرها أنها ستتمكن في القريب العاجل من رد جميله إليه، واستخلاصها لنفسها بعد ذلك أخا وصديقا.
قربا من أثريب (بنها) فإذا هما يريان أشرعة سفن كثيرة تمخر من الشرق متجهة إلى أثريب، كأنما هي سرب متواصل من حمائم بيضاء، فزعم أنه النيل وتاقت نفسه مشتهية أن ترى على الفور ذلك النهر الذي طالما حدثه عنه باقوم والحارث أعجب الأحاديث، ولكن هيلانة عجلت فأنبأته أن الذي يرى إنما هو فرع من النيل يخرج من أثريب وينتهى عند تنيس، وقدرت أن هذه السفن التي تمخره إنما تحمل اللاجئين من بلاد الشام والموت الزؤام إلى بلاد مصر والإسكندرية، وكان الواقع كذلك فقد كانت تحمل جموعا من أروام الشام الفارين منها من كل ملة، حتى من اليعاقبة الذين أملوا الخير كله من اندحار الروم وانتصار المجوس، فلما لم يعرهم المجوس اهتماما، ولم يشغلوا أنفسهم بالسفاسف، ولم يتدخلوا في عقيدة أحد، وإنما تدخلوا فيما يملكه الناس، وعملوا على أخذه منهم - فروا هم أيضا مع الفارين.
بلغا بعد قليل ميناء أثريب العظيمة، وكان ورقة في أثناء قدومه يرسل ببصره إلى صفحة النيل ممتدا على الأفق من الجنوب إلى الشمال، فيرى أمامه أعجب ما وقعت عليه عينه منذ خلقه الله - يرى النيل! يرى السلسبيل - يرى فيض الخير الذي ترسله السماء إلى الخلق كل عام بالري والخصب والنماء، ويرى الفلك تجري هادئة على صدره، فما إن يغفل الطرف عنها حتى يراها قد أوغلت وانحدرت إلى مستقرها، فهي تحكي نعمة الله التي يرسلها إلى الموعود بها فتأتي إليه سلسة هادئة، حتى إذا استبطأ سيرها وجدها قد غمرته من حيث لا يدري، ولقد ازدحمت الميناء بالفلك الصادرة عن أثريب والواردة إليها على صدر الفرع التنيسي؛ لتقطع النيل، وتنحدر منه إلى الترعة الفرعونية التي شقها أحد ملوك مصر السابقين؛ ليصل بها ما بين الفرعين الشرقي والغربي مارة بحصن منوف القوي، وصاعدة في مرورها إلى أرباض نيقيوس حتى تفيض منها في النيل من الجانب الآخر.
وفيما ورقة غارق في تأمله وتفكيره، انتبه على حديث هيلانة إذ تقول: ماذا نفعل بالجمال؟ لم تعد لنا بها حاجة، فالطريق إلى الإسكندرية طريق النيل. لم يكن ورقة قد أعد لهذا السؤال جوابا، ولا هو يستطيع الآن جوابا. أما البعير الذي تركبه فكان هينا عليه أن يبيعه إذا وجدا شاريا، أما الشملالة التي يحبها وتحبه والتي أصبحت جزءا منه، ففراقها عنده كفراق لمياء، ولكنه اضطر إلى فراق لمياء رعيا لها ولأهلها ولأنه لم يكن يملك غير ذلك، وأما الشملالة فماذا يجبره على فراقها؟ سكت ورقة على الجواب فقالت هيلانة: أنا أعرف قدرها عندك وإن لم تعد لك بها حاجة، ولن يكون لها عمل في الإسكندرية. قال: وفي الصحراء وسيناء وبلاد آدوم وثمود، وفيما بين يثرب ومكة. قالت: لن تعود إليها، لن أسمح لك. فابتسم ورقة وقال: أليس هناك من سبيل إلى أخذها معنا إلى الإسكندرية في سفينة؟ إنها آخر ما بقي لي من بلادي. قالت: إنك تجهل ما تتكلف من النفقة في نقلها وعولها، ولكنك لا تقيم لذلك وزنا. ثم تذكرت أنه يحب ناقته حبا تهون إلى جانبه النفقة فقالت: هي المحبوبة المعززة، لا بأس سأدبر الأمر. خير لك وأرخص أن يأخذها لك أجير إلى الإسكندرية. قال: وهل يؤمن عليها الأجير؟ هبي أنه ذهب بها قالت وقد ابتسمت: إنك يا صاحبي تنسى من أنا من نيقتاس حاكم هذه الأرض، وإني إن شئت أن أحملها إلى الإسكندرية على أعناق الرجال حملوها شاكرين، ولكني لا أريد أن ألقى منهم أحدا، إلا إذا عجزت.
وفيما هما يتحادثان سمعا صوتا من ورائهما ينتهرهما قائلا: إلى متى تقفان تتكلمان وتزحمان الطريق! قبح العرب والقبط جميعا! انصرفا من هنا على الفور وإلا ضربت راحلتيكما فألقيتكما في النيل طعاما لسمكه.
Unknown page