115

ضحك ورقة في نفسه ضحكة عجيبة صامتة، قال في نفسه: أيمكن أن يكون لهذه الأمة العربية التي تقيم لغيرها ممالك وعزا - عزا خاصا بها؟ ومجدا مؤثلا لا يأتي عيه غير الدهر؟ صمت وإذا هو يعود به الفكر إلى مكة وإلى رسول الله يتأمل وجهه كأنما ينتظر أن يسمع منه جوابا، وإذا هو يرى وجه الرسول تفتر شفتاه عن ابتسامته الحلوة الخلابة، وإذا هو يتخيل كأنه يقول له: نعم يا ورقة، لم يرسلني الله في هذه الأمة إلا لهدايتها إلى الرشد، وتوحيد كلمتها، ولجمعها على الحق ، وإعدادها للمجد، وإبعادها عن الخنا والرذيلة، فهي على وثنيتها وفساد معتقدها الآن أشرف أمة وأنبل شعب. ستؤمن بما أنزل علي، وسيكون لها فوق ذلك منعة في الأرض حتى تأتي في الشرق إلى جبال البامير عند الصين فتعلوها، وفي الغرب إلى بحر الظلمات فتنيره، وتنتشر إلى الشمال وتنحدر إلى الجنوب، ولن يكونوا ظلمة ولا قساة. سيكونون رحمة للناس وأخوة للناس، وسيرى الناس أن الله أراد بهم الخير، وسيبقى هذا الملك لهم، ولكل من لف لفهم، واتبع دينهم ما بقوا على أمر الله، وعملوا بما هداهم في قرءانه، وأعدوا لكل عدو عدة التنكيل والتدمير، وما عرف كل مسلم أن الأمر فرض عليه لا يتعلق بسواه، ولا يقلل منه قعود غيره عنه. فإن غضوا الطرف عنه، أو فرطوا في شيء منه - انحل ملكهم وذهبت دولتهم.

وفيما هو في هذا البحران قال ورقة في نفسه: واحسرتاه لنفسي كيف حرمتني المقادير أن أكون مع رسول الله وله فيما هو فيه! ثم حرمتني أن أبقى في يثرب؛ لأكون مع خئولته وأبناء أعمامهم أعمل على تعجيل يوم هداهم إلى الله! ثم حرمتني أن أكون في جوار أحبائي الذين أشم ريح السعادة في أردانهم! أعيش متنقلا في الصحراء من جوز إلى جوز، ولا أدري أين مستقري، ولا كيف يكون حالي! أمقدر علي أن أعيش في الدنيا مبعدا عن كل أمل! حرمت آباء لي ما كان لأحد في الناس مثلهم برا ومحبة ونعمة؛ أبي وباقوم وابن نوفل والحارث وسيدي وملاذي محمد رسول الله، وحرمت نعمة الأمومة المباركة من خديجة أم المؤمنين، وأمي تماضر وهرميون! وحرمت الأخوة زيد بن حارثة وبلالا وإياسا، ومنهم كنت أستمد القوة والأمل، وحرمت الأخت لا أخت سواها: لمياء، التي تحبني وأحبها، وكان جوارها النعمة والمسرة، والقلب السعيد، ولكن واحسرتاه، لقد افترقنا وهي تحسبني صلب القلب خشن النفس، جامد الحس، فهي إلى اليوم في مكة لا تذكرني إلا وهي منقبضة النفس عني، تود لو ترسل إلي كلمة الغضب في طيات ما يهب علينا من النسائم لولا ما تكون قد أدركته من سري المكنون.

ثم أخذ يتذكر جمال وجهها وإشراقها ببسمات المحبة حين كانت تلقاه وما يعروها من نشاط السعادة لمرآه، وتمنى لو كانت إلى جواره كعهده بهدى، وتمنى لو يتناولها بين ذراعيه ويدنيها من قلبه المحترق بالشوق إليها، ويقبلها ويعتذر إليها، ويفيض على ترائبها نبع حبه المطهر المكتوم. فلما لم يجدها ألقى رأسه على جوالقه، وخبأه في طياته، وأخذ يذرف الدمع مدرارا، ويتأوه ملتاعا، وإذا هو يحس على كتفه أنامل رقيقة تلمسه، وصوتا حنونا يكلمه. فالتفت في غشيته فإذا هو يرى في سحاب ما ألقاه على الدنيا من فيض دمعه وجها مجللا بالغيوم، نسي أنه وجه الأمير الصغير الراقد في فراشه جريحا في الغار، ويزعمه لفرط ملاحته ودعته حين ارتدت العافية إليه، وجه لمياء قد توارد إليه شبحه حقيقة ماثلة فمد ذراعيه إليها يقول في ضراعة القلب المتفطر: لمياء! تعالي! لمياء! إلي! ولشد ما كان ذعر الأمير وحزنه؛ إذ رأى الفتى فيما هو فيه، وأدرك أنه وجد قد دلهه، وتمعن في محياه فوجد فيه مع الملاحة معالم قلب كريم، وطلعة شاغف مشغوف. فرق للفتى، وقال له: لا بأس عليك يا صاحبي! وكانت عينا ورقة قد خلتا آخر ما كان فيهما من قطرات الدمع فاستطاع أن يرى وجه الأمير عيانا، ويدرك أنه في بحران، وسرعان ما رد ذراعيه إلى عطفيه، واستوى في مجلسه يعتذر إلى الأمير في ذلة المريض، ولكن الأمير لم يدعه يتم اعتذاره فأعاد عليه القول: لا بأس عليك يا صاحبي. سمعت نحيبك فأخذتني عليك رقة، ورأيتني أنهض بقوة الله لأرى ما بك عسى أن أخفف عنك، ولكني أشعر ... أشعر ... ثم لم يستطع أن يتم جملته بل سقط على ورقة، وهو مطرق، من أثر دوار أصابه؛ لما أنفق من الجهد في النهوض، وفي الوقوف حياله، وأدرك ورقة ذلك من صفرة علت وجه الأمير فنهض وأرقده مكانه. ثم أخذ يحل أربطة لفاعته من أعلى؛ ليرد عليه الهواء فينعشه، وما كان أشد دهشته؛ إذ لاح له من وراء الأزرار نحر عليه عقد من اللؤلؤ الكبير متدل فوق قميص من الزرد يعلو قميصا من الحرير الأبيض برز منه فوق الترائب نتوءان أيقظا في نفسه أن تحتهما ثديين، وأن الأمير أميرة، وثبت عنده ذلك عندما اتجهت عينه إلى وجهها فبدا له منه وجه أنثى في الثلاثين من عمرها، أذناها قد خرمت شحمتاهما؛ لتحملا قرطا لم يكن إذ ذاك موجودا. أيقن أنه كما أوجس، وأنها إنما تنكرت؛ لتصرف عنها من الأذى، وهي فارة ما لا يقع للرجال. على أن دهشة ورقة لم تعقه لحظة عن أن يبحث عن سقاء الماء؛ ليرش منه على وجهها نطلا ينبهها، ثم يحملها وهي على هذه الحالة؛ ليرقدها في فراشها في الغار، ويبعدها عن عيون من معه من الرجال إذا هم جاءوا وهو مشغول بأمرها، وكانت الأمير قد تنبهت إذ ذاك، ورأت صدرها مكشوفا ومبللا بالماء، فنظرت إليه وإلى نفسها وهو واقف أمامها، نظرة ذعر وتفحص آملة أن لا يكون قد كشف عن أمرها فقال لها: لا بأس عليك يا سيدتي. اطمئني. ستظلين على ما كنت عليه من التنكر، وسأكون لك على الدنيا.

بكت المرأة إذ ذاك بكاء صامتا، وأرادت أن تتكلم، ولكنه قال لها: ثقي بالله يا سيدتي وبأخيك الذي جمعته بك الغربة، وجعلت لك عليه حقا؟ كلانا شقي محزون، ولنعم المؤاخي الحزن والشقاء. ثم استأذنها في أن يمسح لها نحرها مما نطل عليه من الماء، ويربط لها لفاعتها، فسمحت وفي نظراتها لمعات الشكر والحمد لله على أن أرسل إليها مؤاسيا في ساعات حزنها وفرقها من أن تصاب في كرامتها بمكروه. ثم قالت والعين شكرى بدموعها: ما اسمك أيها الفتى الكريم لأصلي لك وأدعو؟ قال: شكرا لك يا سيدتي. اسمي ورقة بن صليح وأنا من مكة. قالت: ليثبك القديسون على مروءتك، ثم أخذت تتمتم بالصلاة والدعاء، وهو مشغول بتجفيف الماء عن نحرها.

وفيما ورقة يسبل لفاعتها على بدنها تألمت ألما مفاجئا تقلص له وجهها وصاحت: الجرح! الجرح! فرفع يده على الفور، ووقف هنيهة حتى زال أثر ألمها، وقال: معذرة إليك يا سيدتي . قالت: لا بأس. قال: ألا تسمحين لي يا سيدتي أن أرى جرحك؟ إني أعرف شيئا من طب الجروح. قالت: بلى يا ورقة، لم يعد يريبني منك شيء، ولكن ماذا تستطيع الآن فعله للجرح ونحن كما ترى بعيدون عن الدنيا وعن الدواء. قال: لا تعجز حيلة الطبيب وإن لم أكن واسع العلم. قالت: لا بأس. اكشف وانظر إني واثقة بمروءتك، والله لا أدري عن جرحي شيئا. فقد أغمي علي ساعة ضربني اليهودي بسيفه، ورأيتني في هذه الثياب محمولة على كتف خادم زوجي الوفي، ولا أدري من ألبسني إياها، وإن كنت أظن أنه هو الذي فعل هذا.

أخذ ورقة يزيح اللفافة والدراعة الفضفاضة عن بدنها، وإذا هو يرى الزرد والقميص الذي تحته مقدودين قدا طويلا بادئا من جانب الثدي الأيسر، ومنتهيا في أسفر الخاصرة، ويرى على استطالة هذا جرحا لاصقا بالزرد نفسه من أثر ما علقه به من الدماء، ورأى بعض حلقات الزرد مشتبكا في الجلد أو غائرا، وبعضها مكسورا بأهداب من اللحم، والجرح كله قائحا تخالطه دماء ومصول. فهاله ما رأى، ولكنه دارى عواطفه، ثم أخذ يرد كل شيء إلى ما كان عليه، وهو يقول: احمدي الله يا سيدتي، وصلي له صلاة الشكر مضاعفة كل يوم، لقد أنقذ حياتك الزرد الذي لبسته. قالت ألف حمد لله على كل حال - كيف ذلك؟ قال لقد عاق الزرد السلاح عن أن يغير عليك. قطع السيف حلقات الحديد فلم يبلغ إلى ما وراء الجلد بكثير، والجرح على كبره يسير في طريف الشفاء، ولكنه يحتاج إلى تنظيف. لقد وهبك الله قوة في البدن ستعجل لك العافية. قالت: ليتني مت يا صاحبي، ولم أعش بعد زوجي وولدي. ثم خنقتها العبرات فسكتت، وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها، ثم تمالك نفسه يقول: هوني عيك يا سيدتي، لا تضعفي نفسك بهذا الوجد. أنت شابة وسرية كما أرى ، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاد وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إن كنت تأخذين بالرشد، أو كنت ممن يقرون الحق إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب وتقرئي. فستجدين في هذا الكتاب مخطوطا بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام؛ لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بهما كل ما مضى. أما وأنت تبكين الآن فذاك؛ لأنك شاكة في المستقبل، وفي رحمة الله. لا يا سيدتي، شبابك وجمالك وجاهك ضمين لك برد سعادتك. إني سأحملك إلى أهلك في الإسكندرية؛ لتقربي من هذه السعادة. نعم إني كنت ذاهبا إلى القدس وإن كان صديق لي قد أوصاني أن أقصد إلى يوحنا أمير أيلة، ولكني أكره المكث في الدنيا بلا عمل، وكذلك كنت في طريقي إلى الرقيم التي تسمونها بطرة،

1

ولكن لم يكن لي غاية خاصة من ذلك، فلأعد معك إلى أيلة، وأسلك بك أقرب الطرق إلى القلزم، طريق الشعوى، وهو مملوء على قصره بالعشب والماء.

2

بيد أن القوافل لا تطرقه كثيرا؛ لأنه ليس طريق تجارة بعدما دالت عمان وبطرة.

Unknown page