101

ولقد كان ورقة محل الرعاية والمودة من كل أوسي يتصل به وكل خزرجي. يدعونه إليهم ويسائلونه عن رسول الله فيجيب بما يعرف، وهل كان ورقة إلا لسان حالهم يتكلم ويشرح فيزيدهم هياما وحنينا إلى الإسلام! وما كان أشد اغتباطه حين كان يلتقي بالمهاجرين إلى يثرب فيسائلونه هم أيضا عما سمعوا من ظهور نبي في قريش يدعو إلى الله وتوحيده، والمؤاخاة بين الناس، وإزالة الفروق فيجيبهم بالإيجاب، ويخبرهم بشأنه وبدينه وغايته إخبار الطبيب البصير، وكان أهم ما يحاول ورقة تبصير هؤلاء المجوس والنصارى المثلثين الذين يتناحرون فيما يبدو، على كلمة واحدة: هل جسد المسيح يفنى أو لا يفنى؟ واليهود الذين لا يريدون لأحد غير بني إسرائيل شيئا مما وعدهم الله به في التوراة؛ خشية أن تنفد نعمة الله!!! أو لا يصيبهم من القسمة إلا رذاذ! نقول كان ورقة يقول لهم: إن الإسلام يمتاز عن سائر ما انقلبت فيه الأديان بالتسوية بين الناس في الحقوق والواجبات

10

وبالإخاء العام، ورعاية الحرية للفرد إلا ما آذت غيره، وهو ما لم تعرفه الدنيا يومئذ؛ إذ كان متاع الدنيا وكرامة الحياة قسمة بين أهل السلطة الزمنية، والسلطة الدينية. أما السوقة؛ أي: عامة الناس بعدهم، فأمرهم في المرتبة الثانية، هم الموالي والخدم والعبيد، وإنما يتفاضلون فيما يسمحون لهم به من الرزق بقدر وفائهم لهم، وتضحيتهم في سبيلهم، ولذلك كان أكثر هؤلاء المهاجرين يتمنون على أربابهم أن ينصروا هذا الدين وصاحبه على عجل في أصقاع الأرض عسى أن يبلغهم فيريحهم مما هم فيه من الاختلافات التي لا يدركون لها معنى، بل ولا يعرفون ما هي، وهي تتقاضاهم رقابهم ورقاب أولادهم وتستبيح أموالهم وأعراضهم.

واستمر ورقة على هذا الحال من الاجتماع بسويد وإياس بن الأشهل وغيرهم من رجال الأوس، كما كان يجتمع بالخزرج وغير الخزرج، ولكن حماته من بني النجار آخذوه على ذلك، وقالوا له: كيف تصادق الأوس! إن صديق أعدائنا عدو لنا. فانصرف عنهم أو فانصرف إليهم. إنا قادمون على حرب مع الأوس، ولا بد لنا أن نعرف اليوم عدونا من الصديق. قال الفتى: إنما المؤمنون إخوة، فأنا آنس بإياس؛ لأنه مسلم مثلي لا لأنه عدو لكم، وأما وربي ليس الأشهلي براغب في هذه الحرب ولا بمروج لها، وما يكره من الأشياء شيئا كأن يقتتل أخوان؛ لتظفر يهود من بعد تضعضعها بالمنعة والسلطان، ولقد أسلم إياس يوم ذهب الأوس يلتمسون الحلف عليكم من قريش فأبوه عليهم، وعد ظفره بالإسلام خيرا مما جاء فيه أهله، ولن يحارب إياس خئولة نبيه. هكذا قال لي. قال الأسعدي اللائم: ليس من الحرب مفر ففي أي جانب أنت؟ قال: في جانب خئولة مولاي رسول الله، ولكني لا أريق دما عامدا. أكون في الساقة أحمي متاعكم ومئونتكم، وأحمل الماء إليكم، وأضمد الجراح؛ فسكت ابن النجار على هذا.

على أن ورقة انقطع من يومه عن زيارة صاحبيه؛ لئلا يتهم بالتجسس على الأوس، وكان يخرج إلى أرباض يثرب وجبالها في نهاره، ويعود إلى يثرب في ليله، وهو يدعو الله أن يلهم الأخوين السلام.

الفصل الثلاثون

يوم بعاث

كان ورقة يخرج إلى الجبال المحيطة بيثرب أو إلى أوديتها مستريضا أو ملتمسا لناقته علفا في مراعي بني النجار، فكان يعجب لما كان يرى على سفوح الجبال وقممها من بيوت محصنة بنيت بالحجر الأصم، وصينت من أذى المقتحم بأساليب الوقاية والدفاع. تلك هي الآطام التي بناها اليهود؛ للاعتصام بها كالقلاع والحصون في بلاد الشام. هناك في وحدته كانت تسبح نفسه في عالم الخيال والتفكير، فيتأمل تكالب الناس على أعلاق الحياة، واحتيال غيرهم على صيانة ما في أيديهم من ذئاب العالم، ويتفحص أخلاق بني آدم وأفعالهم فلا يراهم في الحقيقة إلا ذئابا في مسالخ أناس. كان يعرض أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم على مخيلته، ويتساءل فلا يأتيه إلا جواب مذعر مؤلم لا يجد لنفسه حيلة ولا وسيلة إلى دفع ألمه إلا بالاتجاه إلى الكعبة حيث يسكن سيده المرجي لخير الناس ودفع شرورهم، ويجثو داعيا ومصليا أن يعجل الله بنشر دينه؛ ليريح الناس من هذه الشرور. ثم يراجع نفسه فيقول: ما محمد إلا بشر وسيموت كما مات غيره. ترى أيبقى دينه حيا قويا كما يكون في حياته؟ أم تلويه ذئاب الناس بأنيابها الحديدية، وتوجهه وجهة أخرى ليعودوا فيقضموا الرقاب كما يفعلون الآن؟ وما كان ليرد عليه جواب هذا إلا بما يذعر، ولذلك كان يقول: ألا إنه يجب علينا نحن المسلمين أن نخصص من أنفسنا طائفة؛ لحماية دين الله، ورد الشارد إلى صراطه المستقيم، ودفع الناس عن الناس بالموعظة الحسنة وسيف الخير الذي لا يرحم إذا أردنا أن نعيش سعداء في الدنيا والآخرة. كان تفكيره إذ ذاك يجري على هذا الأسلوب من سؤال وجواب:

دعني حرا

لا. لأن حريتك تقيدني

Unknown page